حريق الجزويت
حريق الجزويت


حكاية قرن ونصف من حرائق المسرح المصري

أخبار الأدب

الأحد، 14 نوفمبر 2021 - 08:31 م

كتب :  جرجس شكرى 
تأخر موعد النيران هذه المرة، النيران التى اعتادت التهام خشبات المسارح والديكور والكواليس والإكسسوار وملابس الممثلين وحتى مقاعد المتفرجين فى الصالة، والتى عادة ما تنطلق من الماس الكهربائى المتهم الأول فى هذه الحرائق، ففى العقود الخمسة الأخيرة عقدت ألسنة اللهب اتفاقاً صارماً مع شهر سبتمبرعلى أن يكون الأخير موعدها لارتياد المسارح، فى زيارة غير مرغوب فيها بالطبع، فمنذ حريق دارالأوبرا المصرية بالأزبكية فى سبتمبر 1971 ومروراً باشتعال النيران فى مسرح البالون، وذلك قبل أن تلتهم النيران المسرحيين أنفسهم فى مسرح قصر ثقافة بنى سويف ووصولاً إلى حريق المسرح القومى فى نفس الشهر عام 2008.

1
سوف يذكر تاريخ الحرائق المسرحية أن النيران جاءت متأخرة شهراً عن موعدها هذه المرة ففى مساء الأحد 31 أكتوبر 2021 التهمت النيران مسرح الجزويت أو مسرح ستديو ناصبيان الذى كان مغلقاً خالياً من البشر أو أى حركة كان فى عطلة تامة! 

وهذا أمر يدعو إلى الدهشة! المسرح الذى تأسس عام 1998 على أنقاض ستديو ناصبيان الذى أسسه الأرمنى مهراتى ناصبيان عام 1937 حين أدرك مبكرا مستقبل هذا الفن الوليد فأسس الاستديو الذى حمل اسمه وكان ثانى بلاتوه فى مصر بعد ستديو مصر الذى أسسه رائد الاقتصاد الوطنى طلعت حرب 

وشهد فترات ازدهار وأفول إلى أن تحول مبنى البلاتوه إلى جراج سيارات بعد أن آلت ملكية الاستديو لجمعية النهضة العلمية بالجزويت وعلى أنقاض جزء منه تأسس مسرح الجزويت الذى كان فضاء للفنون المستقلة وخاصة المسرح الذى فتح أبوابه على مدى أكثر من عشرين عاماً لشريحة كبيرة من الهواة وأيضاً المحترفين 

وفى مساء يوم الأحد احترق المسرح فجأة وامتدت ألسنة اللهب التى اخترقت الحائط الخشبى إلى جراج السيارات والتهمت خمس حافلات كبيرة. 

وإلى أن تعلن النيابة عن نتائج التحقيقات سوف يظل التساؤل قائماً وملحاً.. كيف احترق المسرح المغلق الخالى من الحركة ومن المفترض أيضاً أنه بدون الكهرباء حيث يتم فصلها عن المسرح فى فترات الراحة!.

المسارح فى مصر تحترق ويهدمها البشر ويضربها الزلزال تصيبها الكوارث الطبيعية والإنسانية لقد عرف المصريون المسرح فى صورته الغربية وأقصد المبنى المسرحى مبكراً فى القرن الثامن عشر حين حملت الحملة الفرنسية هذا الفن لجنودها وقوادها وكانت تقدمه فى الأزبكية 

وفقاً لما رصده الجبرتى فى كتاب «عجائب الآثارفى التراجم والأخبار» وبعد ستة عقود كانت مصر تزهو مع الخديو إسماعيل بأول دار أوبرا فى الشرق، ومسارح أخرى فى القصور الخديوية وخارجها أيضاً وبعد سنوات وعلى بعد خطوات من الأزبكية كان شارع عماد الدين مدينة للفنون المسرحية، عشرات الفرق وعشرات المسارح يزدحم بها الشارع ليل نهار  بل يقدم التيارات الحديثة والمعاصرة فى الحركة المسرحية العالمية 

وقد أصبح كل هذا أثراً بعد عين! وهنا لا أعرض لتاريخ المسرح بل لتاريخ الكراهية والإهمال لهذا الفن  فمن يتجول بين حى الأزبكية وشارع عماد الدين يعرف كيف تراجعت مكانة هذا الفن كيف أصبح مكروهاً مرذولاً ومهملاً! كيف حلت إكسسورات السيارات وقطع الغيار بدلاً من فنون الفودفيل والبوليفار! 

وكيف تم استبدال المسرح الغنائى بمحلات الأحذية فى عماد الدين! لقد اختفت منه المسارح ولم يتبق من الشارع العريق سوى مسرح الريحاني! أما مسارح الأزبكية الثلاثة فيحاصرها الباعة الجائلون والجراجات القبيحة فيما يشبه الاستعمار تحت سمع وبصر الجميع 

ولو كان لها لسان لصرخت واستغاثت وقالت ارحموا عزيز قوم فبعد أن كانت هذه المسارح فى منطقة يصفونها بأنها نزهة الأعيان أصبحت فى «العتبة» التى نعرفها الآن بالضجيج والضوضاء والعشوائية فلماذا لا تغضب الطبيعة أيضاً على المسرح فيضرب الزلزال مسرح السامر عام 1992 فتتشقق الحوائط ويكمل المسئولون ما بدأه الزلزال ويتلاشى السامر من الوجود ثم يأتى دور الماس الكهربائى مرة والإهمال مرة أخرى وهكذا تتناقص أعداد المسارح فى مصر. 

 

الأب وليم سيدهم

2
كانت آخر الحرائق التى اهتز لها وجدان المسرحيين بل وشريحة كبيرة من الشعب المصرى حريق المسرح القومى فى شهر رمضان عام 2008 الذى وافق شهر سبتمبر من العام نفسه ولحظة انطلاق مدفع الإفطار أتت النيران على مقدمة المسرح ثم الستارة لتتوغل وتلتهم الخشبة ومخازن الملابس والديكور وظلت النيران ساعات إلى أن نجحت فرق الإطفاء فى إنقاذ ما تبقى من المسرح العريق الذى أسسه طلعت حرب فى مطلع العشرينيات من القرن الماضي 

وظل المسرح قيد الترميم وإعادة البناء ما يقرب من ست سنوات وتم افتتاحه فى ديسمبر 2014. 
وقبل ثلاث سنوات من هذه الكارثة كانت المأساة الإنسانية الكبرى فى تاريخ المسرح المصرى أيضاً فى شهر سبتمبر 2005 والمعروفة إعلامياً بمحرقة بنى سويف التى راح ضحيتها مجموعة كبيرة من المسرحيين فى حادثة مأساوية لم يكتبها كبار كتاب المسرح التراجيدى منذ الإغريق وحتى وقتنا هذا فبينما كانت فرقة الفيوم تقدم أحد عروضها 

والتى استخدمت فيها مواد قابلة للاشتعال مع الشموع المشتعلة احترق المسرح والمسرحيون وكان الباب مغلقاً وراحت النيران تلهو وتتجول فى فضاء المسرح تلتهم الممثلين والديكور والمقاعد والنقاد والمشاهدين!

ربما لا تذكر الأجيال الجديدة سوى هاتين الحادثتين ولكن حرائق المسرح فى مصر لها تاريخ كبير إذ يذكر قاموس المسرح المصرى أن أول حريق ذكرته المصادر التاريخية عام 1869 حين شب حريق محدود فى دارالأوبرا المصرية فى الليلة التالية لافتتاحها وفقط أتلف بعض الأثاث 

وفى القرن العشرين احترقت عن آخرها وأصبحت أثراً بعد عين وعلى بعد خطوات من دار الأوبرا المصرية وفى ميدان العتبة شبت النار فى مسرح السورى أبو خليل القبانى عام 1900 وأحرقته عن آخره ولحسن الحظ كان القبانى وفرقته فى جولة بالصعيد فنجت الفرقة واحترق المسرح فحزن الشيخ أبو خليل القبانى أحد رواد المسرح العربى وبعدها اعتزل الفن وعاد إلى وطنه سوريا وتعثرت الفرقة وتفرق أعضاؤها.
 
وبعد سنوات وبالتحديد فى الخامس من أبريل عام 1905 كان للإسكندرية نصيب من هذه الحرائق حيث احترق المسرح العباسى الذى كان معروفاً باسم (مونفراتو) والذى كان من أفخم وأهم المسارح وذلك بسبب ماس كهربائى حيث أتت النار على المبنى كله 

وبلغت الخسائر فى ذلك الوقت 14 ألف جنيه وتقريبا كان هذا أول ماس كهربائى يتم اتهامه بحريق مسرح فى مصر! وبعد مائة عام وخمسة أعوام تم اتهام حفيد هذا الماس فى احتراق المسرح القومى بالقاهرة؟ وفى عام 1913 

وفى شهر يوليو احترق تياترو (تور إيفل) حيث اشتعلت فيه النار فى الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل، وقد أكلت النار منصة التمثيل وجناحى المسرح والملابس، وفى إحدى ليالى عام 1927 شب حريق فى مسرح رمسيس فى الليلة الأخيرة من عرض مسرحية (الشرك) وبدأ الحريق حين علقت النار بإحدى الستائر وامتدت لدرجة أن احترق السقف الحديدي.
 
لم تسلم المسارح من موجة الدمار الذى خلفه حريق القاهرة فى 26 يناير 1952، حيث وقع اعتداء على مسرح وسينما (هونولولو) بحدائق القبة واحترق المبنى عن آخره وكانت الخسارة الأكثر فداحة ليست فى احتراق المبنى، ولكن فى احتراق تراث جورج أبيض بكامله سواء الملابس أو الديكورات. وأيضاً طال الحريق مسرح المطربة ملك 

وأتلفت معظم محتوياته وفى صيف عام 1952 احترق مسرح النجمة الصيفى الذى بالإسكندرية وهو المسرح الذى أقامه بديع خيرى لتقديم أعمال الريحانى.
 
واستمرت الحرائق بعد ثورة يوليو،1952 حيث احترق مسرح الجيب فى فبراير عام 1963 بشارع قصر النيل وأتلفت النار جميع محتوياته، ومن الطريف أن التقرير الفنى ذكر أن الحريق جاء بسبب إطلاق صواريخ الأطفال فى خاتمة المشهد الأخير من مسرحية الكراسى ليوجين يونسكو، وبعد عام احترق مسرح البالون بدمنهور 

ولم تمر سوى أربعة أعوام حتى احترق مسرح البالون فى القاهرة وذلك فى عام 1975 حيث امتدت النار من كواليس المسرح إلى الخيمة والغرف المجاورة وبتأثير الرياح امتدت النار إلى خيمة السيرك القومى ومنها إلى مسرح السامر 

ولكن تم تجديدجميع المنشآت المحترقة خلال عام واحد؟ 
ونأتى إلى الحدث الأكبر فى تاريخ المسرح المصرى وهو حريق دار الأوبرا فجر الخميس 29 سبتمبر 1971 وكانت بداية لعنة سبتمبر الذى شهد محرقة بنى سويف ثم حريق المسرح القومي واشتعلت النار منذ فجر الخميس وحتى صباح الإثنين فى المبنى الذى كان يبلغ من العمر 102 سنة حيث التهمت النار مخازن الملابس التاريخية وجميع الإكسسورات والتحف والوثائق النادرة.
 
وتوالت الحرائق الصغيرة فيما بعد حيث شبت النار فى منصة مسرح الحكيم فى أبريل 1982 أثناء عرض مسرحية روض الفرج وفى عام 1984 احترقت منصة مسرح العرائس وطالت النار جزءاً من الصالة وفى فبراير عام 1986 اعتدى بعض المتطرفين على مسرح الهوسابير بشارع الجلاء فاحترقت المنصة وقسم كبير من الصالة 

 

حريق دار الأوبرا

وفى عام 1986 شبت النار بمسرح نجم بالدقي وفى 30 أغسطس شبت النار أسفل منصة مسرح الجلاء أثناء عرض مسرحية شباب امرأة.

وهكذا أشهر ثلاثة حرائق كانت فى سبتمبر أو أيلول الأسود كما هو معروف تاريخياً بدأ بحريق الأوبرا ثم محرقة بنى سويف وحريق المسرح القومي.
 
تاريخ حافل بالحرائق المسرحية تاريخ حافل بالإهمال وكراهية المسرح حتى أن الطبيعة تحالفت مع البشر فى هذا العداء ليكون لها نصيب فى التخلص من المسارح. فبين أول حريق رصده التاريخ عام 1869 بعد افتتاح الأوبرا الخديوية ومروراً بتاريخ من الحرائق والكوارث المسرحية التى لعبت فيها النار دور البطولة ووصولاً إلى حريق مسرح الجزويت مساء الأحد 31 أكتوبر 2021 ما يزيد عن قرن ونصف ومازالت الحرائق مستمرة!

3
مسرح الجزويت أو جمعية النهضة العلمية والذى تأسس على جزء من أنقاض ستديو ناصبيان العريق دون شك قيمة تاريخية وكان شاهداً على جزء كبير من تاريخ السينما المصرية ومنها «عروس النيل، الفتوة، المعجزة، شفيقه ومتولى شئ فى صدرى أم العروسة، الحفيد، باب الحديد، فى بيتنا رجل، المراهقات، الخيط الرفيع وأفلام أخرى» كانت أزهى فترات عمل ستديو ناصيبيان ازدهاراً الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى يوليو 1952، ثم سافر صاحبه بعد أن تراجع دور الاستديو وأفل نجمه. ليتبقى من هذا التاريخ العريق المسرح الذى تأسس عام 1998 فى جزء من أرض الاستديو كفضاء للفنون المستقلة والتدريب والورش والذى يتسع لأكثر من 150 متفرجاً

ويستقبل مئات الفرق لتقديم عروض مسرحية واتجاهات مغايرة للفنون والعروض المسرحية ذات الفضاءات غير التقليدية كمسرح الغرفة حيث لا يماثل مسرح العلبة الإيطالية الأكثر تصميماً للمسارح وتبنى مسرح الجزويت - الذى يشرف عليه الأب وليم سيدهم اليسوعى - التدريبات والورش والبروفات لعدد كبير من الفرق المستقلة.
 
احترق مسرح الجزويت كما احترق تاريخ طويل ذكرته سلفاً ومهما كانت الأسباب التى سوف تعلنها النيابة بعد انتهاء التحقيقات يبقى السؤال الأهم ماذا سيقدم المجتمع والجماعة الثقافية فى هذا المصاب الأليم 

ولا أظن أننا نحتاج إلى البيانات والندوات والكلمات الرنانة والصور فقط يحتاج مسرح الجزويت المحترق إلى خطوات عملية لإعادة بناء هذا الفضاء المسرحى الذى قدم الدعم لعشرات الشباب من هواة المسرح والسينما والفنون الأدائية، وبالفعل ما خفف من بشاعة هذا المصاب الأليم هو التعاطف والدعم المجتمعى لشخصيات ومؤسسات عديدة من أجل إعادة بناء المسرح فبعد الحريق مباشرة زار المسرح العديد من المهتمين بالشأن الثقافى بعضهم قدم الدعم المعنوى 

حريق المسرح القومى
والبعض ساهم مادياً ولو بمبالغ بسيطة وأعلنت جمعية النهضة العلمية عن بعض الأسماء، والبعض قدم مقترحات وأفكاراً ونشرت جمعية النهضة العلمية والثقافية «جزويت القاهرة» على صفحتها الرسمية بيانا تشكر فيه كل من ساهم بالدعم المعنوى أوالمادى سواء من المؤسسات أو الشخصيات. وما أتمناه فى النهاية أن يتم ترجمة هذه الجهود 

وهذا الدعم إلى مسرح جديد إلى إعادة بناء هذا الفضاء المسرحى الذى قدم الدعم لمئات المواهب وساهم فى دعم الهواة والمحترفين من الفنانين.

أقرا ايضا | مناقشة تاريخ المسرح المصري في «ملتقى آتوم الثقافي» الأول.. السب

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة