دوستويفسكى
دوستويفسكى


دوستويفسكى .. كمالك لمفاتيح الرواية

200 عـــام ميلاده دوستويفسكى .. مفتاح فهم الحيــــاة

أخبار الأدب

الأحد، 21 نوفمبر 2021 - 03:59 م

د. دينا محمد عبده

 ثمة اتفاق على أن فيودور دوستويفسكى أعظم روائى فى العالم، أكثر الذين تركوا إرثًا كبيرًا من الإبداع الفنى كان له بالغ الأثر فى الأدب أثر امتد إلى مجالات أخرى غير الأدب ليضع بصمته على علم النفس وبعض العلوم الطبيعية والنظرية. لو تأثر به كل من برنارد شو وجان بول سارتر وفرانتس كافكا وفردريك نيتشه وإرنست هيمنجواى ونجيب محفوظ وغيرهم، فقد تأثر به أيضًا سيجموند فرويد وألبرت أينشتاين. وكان له دور فى تشكيل الفرويدية والوجودية. أما فى مجال الفن فقد أدت أعماله لحدوث طفرات فى عالم الفن والسينما والمسرح بعد أن تجسدت فى جميع أنحاء العالم، كل بلغة بلده. 

فى مصر، قدمت السينما أجمل أفلامها استنادًا على أعمال دوستويفسكي، منها أفلام حسام الدين مصطفى «سونيا والمجنون» عن رواية «الجريمة والعقاب»، و «الإخوة الأعداء» عن رواية «الإخوة كارامازوف». وفى بلدان أخرى استلهمت عشرات الأفلام والمسلسلات الدرامية والعروض المسرحية والأوبرالية أعمال الروائى الروسى العظيم. ومن هنا يتضح أنه ليس هناك ما يدعو إلى الدهشة عندما تعلن المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو بأن عام 2021 هو عام دوستويفسكى إدراكا منها لقيمة هذا المبدع فى تاريخ الفن العالمى وذلك بمناسبة مئوية ميلاده الثانية، إذ ولد فى الحادى عشر من نوفمبر عام 1821.
 يمكن القول أن إبداع دوستويفسكى يمثل ظاهرة، فقد جمع فى إبداعه كل متناقضات الحياة وهى نفس المتناقضات التى عاشها. لقد شهدت حياته الحرية والاعتقال وحياة التحرر والانحلال والتدين والالتزام، حياة الرغد وضيق الحال، صور كل ذلك فى أعماله، صور مشاعر الآلام والمعاناة فى المعتقلات وصور قسوة اللحظة التى يشعر بها المحكوم عليه بالإعدام عند تنفيذ الحكم، صور الفقر والحرمان الذى كان يعنى منه الكثير وكم من الجرائم كانت ترتكب باسم الفقر فى حق النفس والآخرين. كانت أيام الاعتقال والمنفى شديدة الصعوبة عليه، وقد أثرت على مجرى حياته الإبداعية، إذ ظل تحت الرقابة الشرطية لسنوات عديدة حتى بعد إخلاء سبيله، ما جعله دائما متوخيًا بشدة الحذر والحيطة فى كل ما يكتب وكل ما يبدع، فلم يصطدم بالقيصر ولا بالدولة مثلما كان يفعل قرينه فى المجد والإبداع ليف تولستوي، ولكن على الجانب الآخر كان فذا عبقريًا فى قدرته على كشف كل سلبيات المجتمع ونواقصه وكان قادرًا أن يدفع القارئ بشكل غير مباشر إلى أن يضع يده على تلك النواقص وأن يستنتج الأسباب التى أدت إلى ذلك.
 أما فى معالجته لشخوصه وأبطاله، فقد كان محللًا نفسيًا محنكًا، استطاع أن يتسلل إلى أعمال النفس البشرية وأن يغوص فى مكنوناتها، حتى أن أعماله فتحت الطريق إلى وضع بعض النظريات فى علم النفس، فنرى فى روايته «الجريمة والعقاب» حقائق مذهلة فى تصويره للمراحل النفسية التى  يمر بها القاتل والصراعات المحتدمة بداخله والعذاب النفسى وتأنيب الضمير.
 صور دوستويفسكى كل أنماط المجتمع، النبيل والفلاح، الغنى والفقير، المتدين والماجن، الطيب والشرير. وكان للمرأة نصيب كبير من أعماله، فقد صور المرأة المستضعفة وكانت دوما ضحية للرجل الذى كان يستغلها لتحقيق أغراضه، فتظهر مقهورة ضعيفة مستباحة، كما صور المرأة العقلانية التى كانت تحسم كل أمورها بميزان المصلحة الشخصية، وهناك المرأة الحالمة والمرأة المتدينة التى مهما أخطأت، يكمن بداخلها حب الرب والنية الدائمة فى التوبة، وهناك المرأة اللعوب القادرة على أن تنسى الرجل عقله وقد تدفعه حتى إلى الجريمة.
 لا يكاد أى شخص يقرأ أى عمل لدوستويفسكى ولا يجد نفسه فى أحد أبطاله. فأدبه هو الأقرب لنفوس البشر، إذ لم يكن أدب دولة واحدة ولا ثقافة واحدة بل أدب للبشرية جمعاء. 
طفولة ملأى بحكايات ألف ليلة وليلة
    ولد دوستويفسكى فى موسكو فى عهد الإمبراطورية الروسية، ويعود نسبه إلى البويار دانيل إيرتشيف، الذى كان صاحب ضيعة تسمى دوستويف، منذ عام 1506. أكد الباحثون أن كل سلالة دوستويفسكى هم أحفاد البويار، كما أن كلمة دوستويفو تعنى بالبولندية الوجيه القريب من الملك. وتشير الوثائق إلى رجوع جنس دوستويفسكى إلى السلالة النبيلة فى عهد المملكة البولندية. وكان جده لأبيه يعمل قسيسًا فى قرية فويتوفتسي. درس أبوه ميخائيل أندريفيتش دوستويفسكى (1789) الطب فى موسكو، وشارك فى الحرب الوطنية العظمى عام 1812 عندما كان طالبًا، حيث تم استدعاؤه للتعبئة من أجل معالجة المصابين فى الحرب. وفى أغسطس عام 1816 حصل على لقب طبيب أركان حرب. وفى عام 1818 انتقل للعمل طبيبًا فى المستشفى العسكرى فى موسكو، وهناك تعرف على مارى نيتشايفا ابنة أحد كبار التجار الذى كسدت تجارته وفقد ثروته بعد غزو نابليون لروسيا. فى 14 يناير 1820 تزوج ميخائيل وماريا وبعد إنجاب أول طفل وهو ميخائيل تم فصله من العمل وانتقل منذ عام 1821 للعمل فى مستشفى مارين للفقراء، وكان يتلقى راتبا متواضعا لا يكفى حاجته ولا حاجات أسرته المتواضعة. ولد الابن الثانى لميخائيل دوستويفسكى فى تلك المستشفى فى موسكو فى نوفمبر 1821 وقد كان كاتب المستقبل. وقد أعطوه اسم فيودور على اسم جده لأمه، التاجر المعروف، وقد تعمد الطفل الذى ولد فى أسرة مسيحية أرثوذكسية تتبع تعاليم البطريركية بصرامة وحزم. فى عام 1822 ولدت فارفارا. وفى مذكراته تحدث دوستويفسكى عن النظام الحازم المتبع فى أسرته، من حيث مواعيد الأكل والنوم والصلاة وارتبطت بظروف عمل الأب فى المستشفى، وكذلك ذكرياته الطيبة عن المربية أليونا فرالوفنا، التى كانت تربى الكاتب وأخوته، وكانت تبلغ خمسة وأربعين عامًا، وفى روايته «الشياطين» تحدث عن هذه المربية. شغلت القصص والحكايات التى كان يسمعها هو وأخواته ومن بينها ألف ليلة وليلة مخيلة الطفل، وأشار إليها فى مذكراته، كما تحدث عن عيد الفصح وخروجه مع الأطفال لمشاهدة الأراجوز والمهرجين، والتزامه وأسرته بحضور القداس فى أيام الأحاد والأعياد فى كنيسة المستشفى. وسفره مع أمه وأخواته صيفا إلى زيارة أحد الأديرة الشهيرة، وكذلك زيارات خالته ألكسندرا وزوجها وجده لأمه وزوجته الثانية وزملاء والده فى العمل، وكان دائما بيت آل دوستويفسكى يعج بالأهل والأصدقاء. 
كان دوستويفسكى معتزا بأسرته لأبعد الحدود وخاصة فى سعيهم من وقت لآخر لكسر الروتين المعتاد وعقد أمسيات ثقافية يجتمع فيها الأهل والأصدقاء ليقرؤوا أعمال كارمزين وديرجافين وجكوفسكى وبوليفى وبوشكين. ويذكر الكاتب أنه فى عمر العاشرة تعرف تماما على تاريخ الدولة الروسية من خلال كتاب كارمزين، الذى كان يقرأه والده جهرًا لتسمع الأسرة كلها. كما كانت الأم هى الأخرى حريصة على تعليم أبنائها القراءة منذ بلوغهم الرابعة. بعد حصول الأب على رتبة الزمالة تم منحه حق النبالة بالوراثة وكان من حقه أن يمتلك ضيعة كبيرة تستطيع أسرته الكبيرة أن تقضى فيها شهور الصيف، كما استطاع أن يقتنى عزبة كبيرة فى محافظة تولا على بعد 150 كيلومتر من موسكو.
من الهندسة إلى الأدب: الكتابة كقرار
   بدأت سنوات الدراسة لدى فيودور بعد العودة إلى موسكو والتحق هو وأخوه الأكبر بإحدى مدارس النبلاء البنين الداخلية التابعة لجامعة موسكو. ولكن أحضر الأب لأبنائه المعلمين بعد أن تعرضوا للضرب والعقاب الجسدى فى المدرسة الداخلية، وعلى الرغم من جزع الأب وشده غضبه إلا أنه كان يتعامل بشكل انسانى مع أبنائه. درس الأبناء الرياضيات والجغرافيا واللغويات واللغة الروسية والفرنسية. تحسنت الحالة المادية بشكل كبير لآل دوستويفسكى وأصبح لديهم مئات الفدادين من الأراضى وما يقرب من 100 فلاح. 
  انتقل فيودور وأخوه الأكبر للدراسة فى واحدة من أفضل المدارس الداخلية فى موسكو والتى كانت تتميز بنظام تعليمى صارم ونفقات باهظة، وقد تلقى الأولاد تعليمًا جيدًا، حيث درسوا العديد من العلوم والتاريخ والجغرافيا واللغات الأجنبية. وكان فيودور تلميذا نجيبا مجتهدا متفكرا، كان قليلا ما يهتم باللعب والتسلية مثلما كان يفعل أقرانه، وكان لا يترك الكتاب من يده، ويقضى وقت فراغه فى الحديث مع الكبار.
أصيبت الأم بالمرض بعد ميلاد الابنة الصغرى، وفارقت الحياة فى سن مبكرة. فى عام 1836 قامت بآخر رحلة لها لزيارة المعابد المقدسة فى موسكو، ومع مطلع 1837 لم تبرح الفراش ولم تجد الأدوية ولا زيارات أصدقاء زوجها من الأطباء، ففارقت الحياة فى نهاية فبراير من نفس العام، ولم تكن قد بلغت عامها السابع والثلاثين، فيما كان فيودور فى الخامسة عشرة.
التحق فيودور وأخوه ميخائيل بمدرسة الهندسة العسكرية بناء على رغبة الأب، ولكن كليهما كان يحلم بمستقبل آخر وهو الكتابة والأدب، وكانا يفكران فى الشعر والشعراء والروايات. رفض الأب ذلك مؤكدا أن مهنة الأدب لن تحقق لهما الرفاهية والمعيشة الكريمة مثل الهندسة. لذلك، كانت أيام الدراسة ثقيلة جدا على أديب المستقبل، فلم يكن تستهويه أبدا دراسة الهندسة وكان يقضى وقت فراغه بأكمله فى قراءة هوميروس وكورنيل وراسين وبلزاك وهوجو وجوته وشيلر وشكسبير وبايرون، ومن الروس ديرجافين وكارمزين وليرمنتوف وجوجول، وكان تقريبا يحفظ جميع أعمال بوشكين عن ظهر قلب. كان أقرانه يقولون عنه إنه أكثر علما وثقافة من الأدباء الروس من نيكراسوف وبانيف وبلشيف وحتى جوجول. ولحبه للأدب، أسس مجموعة أدبية بمدرسة الهندسة، وبعد أن تخرج أصبح مهندسا ميدانيا برتبة ملازم ثانٍ. ولكنه قرر أن يكرس حياته للأدب. فى عام 1844 تم إحالته للتقاعد وفصل من الخدمة العسكرية فى رتبة ملازم أول. 
  ظهرت باكورة أعماله فى سنوات الدراسة من عام 1840-1842 حيث أقبل على العمل على دراما «ماريا ستيورات». وفى عام 1844 كتب دراما أخرى بعنوان «جيود يانكل»، ولكنه لم يحتفظ بتلك الأعمال الأولى. ثم بدأ فى ترجمة إحدى روايات جورج سند وفى نفس الوقت بدأ روايته الأولى «الفقراء». قام أيضا بكتابة عدد من قصص ولكنه لم ينهها، ثم ترجمة رواية «يفجينى جراندي» لـ بلزاك إلى اللغة الروسية. 
 تعرف فيودور على الشاعر والناقد الروسى الكبير نيكولاى نيكراسف، الذى كان سببا فى ضمه إلى حلقة الناقد الكبير فيساريون بيلينسكي. كانت هذه نقطة تحول كبرى فى حياته، حيث تحدثوا فى الحلقة عن ميلاد جوجول جديد نسبة إلى الكاتب الروسى العظيم. 
انتاب النقاد والمتابعون نوع من انعدام الفهم وعدم الرضا عندما صدرت له رواية «المزدوج»، حتى أن موقف بيلينسكى الإيجابى تجاه الكاتب المبتدئ بدأ يتغير، ونقاد المدرسة الطبيعية التى تتبع لجوجول كتبوا عنه نقدا لاذعا ساخرا وأنه كاتب مبتدئ وغير معترف به. وللأسف انتهت علاقة دوستويفسكى بحلقة بيلينسكى الشهيرة بسبب شجاره وعلاقته السيئة مع إيفان تورجينيف. كما تشاجر مع فريق تحرير مجلة (سفرمينيك) التى كان يرأسها فيساريون نيكراسوف، واتجه للنشر فى مجلة (أتيتشستفنى زابيسكي) التى تنتمى إلى كريفسكى. 
 سعى دوستويفسكى إلى اتساع دائرة علاقاته وأصدقائه وأصبح له العديد من الأصدقاء الحقيقيين الذين توطدت بهم علاقته وأصبحوا عوضا عن الأصدقاء الذى فقدهم بعد انهيار علاقته بصالون بيلينسكي، كما أصبح الكثير منهم نماذج لأبطال رواياته. انضم إلى صالون أدبى جديد تعرف فيه على الكاتب الكبير إيفان جونتشاروف، كما تعرف على شعراء ونقاد جدد على رأسهم الناقد مايكوف وبليشييف، الذى عرفه على أحد المعجبين يدعى بيتراشفسكي، وكان يعقد اجتماعات كل يوم جمعة فاجتمع معهم دوستويفسكى وكانوا يناقشون قضايا سياسية مثل ضرورة رفع الرقابة والحظر على طباعة الكتب وإلغاء حق الرق والعبودية وحرية الفلاحين وتغيير الإجراءات القانونية والعديد من القضايا التى كان محظور الحديث فيها فى ذلك الوقت.
 صدر لدوستويفسكى فى الفترة من عام 1845 حتى 1849 أعمال عديدة مثل القصة الكوميدية (رواية فى تسع رسائل) ومقال بعنوان (مدونة بطرسبرج)، قصة (السيد بروخارتشين)، و(المتزلجون) و(اللص الشريف) وقصتيّ (الزوجة الغريبة) و(الزوج الغيور) وتم ضمهم فى مؤلف واحد تحت اسم (زوجة غريبة وزوج تحت الفراش)، (شجرة عيد الميلاد والرفاف) والروايات القصيرة (صاحب البيت) و(قلب ضعيف) و(الليالى البيضاء) ورواية (نيتوتشكا نيزافنوفا)، وقصة (البطل الصغير)، لكن بإجماع النقاد تعتبر رواية (الليالى البيضاء) هى أفضل تلك الأعمال فى هذه الفترة.  
الكاتب المطارد
- هل كان دوستويفسكى محبوبًا من السلطة؟ 
فى صباح  23 أبريل 1849 وبعد نشر روايته (الليالى البيضاء) تم إلقاء القبض على الكاتب الروسى ضمن أعضاء جماعة بيتراشفسكي، وظل معتقلا لمدة ثمانية أشهر فى حصن بيتروبافلفسكي. اعتبرته المحكمة العسكرية  واحدا من أخطر المجرمين على الرغم من نفيه لكل التهم المنسوبة له، وذلك بسبب قراءته ولعدم الإبلاغ عن انتشار رسالة الكاتب بيلينسكى الإجرامية لجوجول عن الدين والحكومة.  
حكمت المحكمة عليه فى 13 نوفمبر عام 1849 بالحرمان من كافة حقوقه المدنية والإعدام رميا بالرصاص. وجاءت لحظة تنفيذ حكم الإعدام عن طريق قطع الرأس فى ١٩ نوفمبر 1849 وقد صور الكاتب تلك المشاعر القاسية التى تسبق لحظة الإعدام من خلال حوار ميشكين بطل روايته (الأبله). ولكن جاء قرار المدعى العام باستبدال الحكم بالأشغال الشاقة لمدة ثمانى سنوات لعدم ملائمة التهمة لحكم المحكمة. وقام القيصر نيكولاى الأول استنادا لرأى المدعى العام بتخفيض الحكم لأربع سنوات من الأشغال الشاقة.
قضى صاحب «الإخوة كرامازوف» سنوات الاعتقال فى أومسك فى سيبيريا، والتقيى بمعتقلى ثورة الديسمبريين، وزوجاتهم اللاتى أعطوه انجيلا قرأه فى المعتقل واحتفظ به لآخر حياته.  كما التقى بالكاتب والناقد الكبير نيكولاى تشيرنشيفسكي.
كان المعتقلون يفتقدون حق تبادل المراسلات، ولكن تمكن دوستويفسكى عندما كان يذهب لمستشفى السجن من كتابة بعض المذكرات سرا تحت اسم (كراسات سيبيريا). ودوّن الكثير من التجارب والملاحظات القاسية التى مر بها فى المعتقل فى روايته (رسائل من بيت ميت). وقد تغيرت هناك الكثير من آرائه ومعتقداته السياسية وحتى الدينية. وهناك أصيب ولأول مرة بالصرع. 
من السجن إلى الحب 
بدأت قصة حبه الأولى بعد الإفراج عنه وإرساله لمدة عام إلى كتيبة الخط السيبيرى السابع فى إحدى المدن بكازاخستان عام 1854 لقضاء الخدمة العسكرية كجندى نظامي، ثم بعد ذلك كضابط صف. هناك بدأت قصته مع ماريا ديميترفنا إيسايفا، وقد كانت زوجة أحد الموظفين المحليين ويدعى إيسايف. وفى عام 1855 توفى الزوج بعد صراع طويل مع المرض، فتزوج الكاتب من ماريا إيسايفا فى كوزنيتسيك بإحدى الكنائس الأرثوذكسية فى فبراير عام 1857. وبعد ما يقرب من عشرة أيام من الزواج بدأ دوستويفسكى يعانى من نوبات الصرع، وعلى عكس توقعاته، لم يكن زواجا سعيدا.
بعد وفاة القيصر نيقولاى الأول، كتب قصيدة مواساة وإخلاص لزوجته الامبراطورة ألكسندرا فيوداروفنا، وعندما تولى القيصر ألكسندر الثانى العرش طلب دوستويفسكى من أحد المعارف الوساطة له والشفاعة لدى القيصر الجديد، وفى يوم التتويج عام 1856 أصدر القيصر مرسوما بالعفو عن المعتقلين السياسيين، ولكن أمر بوضع الكاتب تحت الرقابة لحين التأكد من إخلاصه. فى 17 ابريل عام 1857 حصل دوستويفسكى على العفو الكامل، أى التمكن من نشر أعماله الأدبية، وبموجبه أيضا استعاد حقوقه المدنية والنبالة. 
 عاد دوستويفسكى وزوجته وابنه بالتبنى إلى بطرسبرج فى نهاية ديسمبر عام 1859، ولم يتوقف وضع الكاتب تحت المراقبة حتى منتصف 1870، وقد توقف وضعه تحت رقابة الشرطة تماما فى يوليو عام 1875.   
كانت فترة الاعتقال والخدمة العسكرية محطة تحول كبيرة فى حياة دوستويفسكي، فقد تحول من شخص باحث عن الحقيقة إلى رجل شديد التدين، وكان يسوع المسيح مثله الأعلى الوحيد. وكان أول عمل نشر له بعد الاعتقال هو (البطل الصغير) عام 1857 فى مجلة (أتيتشستفنى زابيسكي) وفى عام 1859 تم نشر روايته القصيرة (حلم العم) فى مجلة (الكلمة الروسية) ثم رواية (قرية ستيباتشكوفا وسكانها) ولكن لم يتلقيا التقييم الكافى المستحق من جانب القراء والنقاد.   
   فى 1861-1862 نشر فى مجلة (فريميا) روايته (مذكرات من بيت ميت)، وكانت عملا عظيما رائدا، فلم يسبق لأحد من الأدباء من قبل أن يصور حياة المعتقلين. وكانت هذه الرواية كفيلة أن تصنع لدوستويفسكى مكانة مرموقة ليس فقط فى الأدب الروسى بل وفى الأدب العالمى كما قال جيرتسين.  
ساعد دوستويفسكى أخاه ميخائيل فى إصدار مجلة (فريميا) وبعد إغلاقها فى عام 1863 ساعده فى إصدار مجلة (إيبوخا). وقد نشرت على صفحات تلك المجلات أعمال الكاتب (مذلون ومهانون) 1861 و(المزحة السخيفة) 1862 و(مذكرات من بيت ميت) 1862 و(ملاحظات شتوية عن انطباعات صيفية) 1863 و(رسائل من تحت الأرض) 1864.

 السفر إلى أوروبا
   بدأ دوستويفسكى رحلته لأول مرة خارج البلاد فى صيف عام 1862. فسافر فى رحلة علاجية إلى المنتجعات فى ألمانيا وسافر كذلك إلى فرنسا وإنجلترا وسويسرا وإيطاليا والنمسا. وفى مدينة بادين الألمانية أقبل بنهم على لعبة الروليت المدمرة التى أفلسته وأصبح فى حالة نقص مدقع. 
أما الجزء الثانى من رحلته إلى أوروبا فى صيف 1863  فنشأت خلالها علاقة مع امرأة تدعى أبوليناريا سوسلافا، وكانت امرأة لعوب شديدة التحرر كما صور حبه لها وأطلق عليها امرأة جهنمية، كما صور شغفه الشديد بلعبة الروليت فى روايته الشهيرة (المقامر). وكان آخر مرة يلعب فيها الروليت فى 16 ابريل عام 1871 بعد أن خسر خسارة فادحة أفقدته الشغف باللعبة.
  قام دوستويفسكى بتسجيل ملاحظاته وانطباعاته عن رحلته الأول إلى أوروبا فى مؤلفه (ملاحظات شتوية عن انطباعات صيفية) التى كان يتفكر فيها فى مبادئ ومثل الثورة الفرنسية (الحرية والمساواة والإخاء) وكان يحوى الكثير من الأفكار الفلسفية. 
فى عام 1864 فارق الحياة كل من زوجته وأخوه الأكبر ميخائيل. فى تلك الفترة تشكل وعى الكاتب من جديد حيث انهارت أفكاره ومعتقداته الاشتراكية التى تمثلها فى الأساس النظريات الأوروبية الاشتراكية إلى الاستيعاب الانتقادى للقيم البرجوازية والليبرالية.  
حياة تقليدية ونبؤة بالموت
تتمثل الأسرة الحقيقية لفيودور دوستويفسكى فى زيجته الثانية. لقد تزوج للمرة الثانية بعد وفاة زوجته ماريا بعد زواج دام سبع سنوات، دون إنجاب. أما زوجته الثانية آنا جريجوريفنا دوستويفسكايا، فقد كانت ابنة موظف بسيط فى بطرسبرج، وقد اعترفت أنها كانت تحبه قبل أن تلتقى به. وقد ظلت زوجته لمدة عشرين عاماً، حتى وفاته. كانت زوجة مخلصة ونبيلة وداعمة له طيلة فترة زواجهما، فقد مر لفترة من الوقت بمشاكل مالية غير أنه كان مسؤولا عن الإنفاق على أسرة أخيه المتوفى. لقد وقفت آنا إلى جانبه وكانت تدير الأمور المالية للأسرة وحمت زوجها من الدائنين، واعترفت بعد وفاته أن زوجها طيلة حياته كان يعانى الفقر. وقد أهدى دوستويفسكى زوجته آخر رواياته (الإخوة كرمازوف)، وبعد وفاته قامت بجمع كل الوثائق الخاصة به وكتبت كل مذكراتها وذكرياتها عن الكاتب. 
أنجبا فيودور وآنا أربعة أبناء، البنت الأولى صوفيا التى توفت خلال شهور من ميلادها، والبنت الثانية ليبوف، والابن فيودر والابن ألكسى الذى مات فى عمر 3 سنوات. كان امتداد نسل دوستويفسكى عن طريق ابنه فيودور، وقد عاش أحفاده فى بطرسبرج، وتحدثاً ديميترى فى أحد الحوارات فى الجريدة عن أنه عاشق لجده وباحثًا فى أعماله. وكتبت ليوبوف مذكرات بعنوان (أبى دوستويفسكي) وقد ترجمت للعديد من اللغات. 
فى بداية يناير عام 1881 تنبأ دوستويفسكى بأنه سيرحل عن العالم خلال هذا الشتاء، وفى آخر يناير زارته أخته فيرا فى بيته لتطلب منه التنازل لها ولأختها عن حصته فى العزبة التى ورثها عن عمته. تتذكر زوجته بكثير من المرارة والدموع تلك الواقعة القاسية التى حدثت بينه وبين أخته وأدت إلى نزيف من حلق دوستويفسكي، وأدى هذا الحوار القاسى بين الإخوة إلى تفاقم حالته المرضية وتزايد انتفاخ الرئة. 
بعد يومين من تلك الواقعة، توفى دوستويفسكى فى عمر الستين، وكان التشخيص السل الرئوى والتهاب الشعب الهوائية المزمن وانتفاخ الرئة. بعد الإعلان عن وفاته تجمعت العديد من الحشود فى منزل الكاتب العظيم لتودعه. كان يصفون وجهه أنه كان هادئا مبتسما، كما لو كان ليس ميتا وانما نائما يحلم، كما لو أدرك الحقيقة العظيمة. دفن فى مقبرة تيخفينسك فى بطرسبرج فى 1 فبراير 1881. على الرغم أنه كان يتمتع بالشهرة أثناء حياته الا أن المجد الحقيقى والشهرة العالمية قد جاءت بعد وفاته.
على الرغم من أن محبيه من القراء والمتابعين من سكان بطرسبرج وخارجها كانوا يعلمون بمرض الكاتب منذ وقت طويل، إلا أن خبر وفاة الكاتب نزل على الجميع كالصاعقة، وكان مشهد جنازته رهيبًا. ذهب البعض إلى أن روسيا لم تشهد يومًا مثل يوم جنازة دوستويفسكي، إذ تجمّع سكان بطرسبرج لوداع معشوقهم إلى مثواه الأخير فى تجمعات هائلة. وقيل أن الجنازة ضمت حوالى ثلاثين ألف شخص، وقيل أربعين ألف، حتى أن الشرطة بدأت فى غلق بوابات مدينة سان بطرسبرج لإيقاف الزحف المهيب من الناس. كانت الخسارة فادحة.  
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة