دوستويفسكى
دوستويفسكى


رسائل دوستويفسكى إلى أخيه ميخائيل

200 عـــام ميـــلاده دوستويفسكى .. مفتاح فهم الحياة

أخبار الأدب

الأحد، 21 نوفمبر 2021 - 04:10 م

من يحتج ضد الفلسفة لا بد أن يكون  فيلسوفا

سانت بترسبورغ 19 آب 1838

 أحقا لم يصلك منى ولو سطراً واحداً؟ مع أننى أرسلت اليك ثلاث رسائل، كانت الأولى بعد سفرى مباشرة، أما الثانية فلم أرسلها لأننى لم أكن أملك ولو «كوبيكا» واحداً، ولم استطع الاستدانة من ميركوروفيتنش، ولكنى حصلت بعد ذلك على 40 روبلا من والدى. على كل حال، فأنت لا تستطيع أن تفخر لمجرد أنك فكرت بى كثيرا، ولكنك مع هذا لم تكتب لى! فأنا ـ على الأقل ـ أكثر وفاء، ولكنى كسول، بل كسول جدا. ولكن ما عساى أن أفعل؟ لم يتبق لى فى هذا العالم سوى شىء واحد، هو اللاّ عمل وبصورة متواصلة، ولا أدرى إذا كانت أحزانى ستنتهى يوما ما.
إن الخلاص والعزاء لهذا الإنسان فى روحه المتوحدة سماء وأرضاً. آه لهذا الطفل المتناقض، فكم أثخنت الجراح قوانين الطبيعة الروحانية. إن العالم، كما يبدو لى، هو المظهر للأرواح السماوية المعتمة بالخطايا، ولكنه وقف موقفا سلبيا من الروحانية الجليلة السامية، وأن ما يعانيه الكون وراء غلافه المخشوش يضع أمام أعيننا أى جهد، وإرادة مستوحدة قادرة على تفجيره وتوحيده مع الأبدية وأن تعى هذه الحقيقة كآخر المخلوقات على الأرض لهو أمر مرعب! كم هو خائر العزم هذا الإنسان هاملت! هاملت! ما إن أتذكر كلماته العاصفة الوحشية، وما يتردد خلالها من أنين العالم الجليل، فإن صدرى لا يضيق بآهة لوم، لأن الروح مطبوعة بالهموم خشية الإدراك حتى الهلاك قال «باسكال» مرة، إن من يحتج ضد الفلسفة لا بد أن يكون  فيلسوفا. وفيلسوفا مسكيناً.
ها إنى أكثرت من الثرثرة. لم تصلنى من رسائلك سوى رسالتين «الأخيرة منهما لا تحسب» أنت الآن تشكو الفقر، ولكنى أيضا لست ذلك الغنى.. صدقنى! فقد خرجنا من المعسكر وأنا لم أحصل على «كوبيك» واحد! وفى طريق عودتى أمضنى البرد «فقد أمطرت السماء وهمت السيول» وأزرى بى المرض وهدنى الجوع، ولم أكن أملك «كوبيكا» واحدا ثمن كوب من الشاى لأدفئ حنجرتى، ولكننى الآن أحسن حالا. يا لبؤس المعسكر، أين منه بؤس الكلاب! حتى إذا ما وصلتنى نقود والدى سددت ديونى وأنفقت ما تبقى، ألا يستطيع المرء أن يمتلك خمسة كوبيكات، والعيش كما خلقه الله؟
أحقا أنك تتذوق الحبوب اللذيذة التى تحبها، ولو بالنظر إليها بعينيك؟ كم آسف لحالتك هذه؟
تسألنى عن مصير نقودك وما حل بـ «ميركوروفيتش»؟! ما حصل هو كما يلى: مررت بهم عدة مرات، ولم أعاود ثانية كنت مشغولا، استعجلتهم وأنا فى أقصى حالات العوز فأرسلوا إلى القليل من النقود، حتى شعرت بالخزى ـ حصلت بعدها على رسالتك الموجهة إليهم «...» وكما يبدو فإنك لم تستلم شيئا، ولم يكتبوا لك بالمرة «...» إنهم يريدون التخلص من مطالبتنا لهم.
وقد انتقلوا من منزلهم القديم، ولكننى أعرف الجديد، وإن لم أعرف عنوانه، وسأتوصل إليه وأرسله لك والآن آن لنا تغيير موضوعنا هذا.
إنك تتباهى بقراءتك الكثيرة لا تتصور أننى أحسدك، فأنا قرأت «بيترهوف» بقدر ما قرأته، وكل أعمال «هوفمان» باللغتين الألمانية والروسية، أعنى Cat Murr المترجم، و«بلزاك» تقريباً. 
بلزاك عظيم ورائع معظم شخصياته هى نتاج للفكر الشمولى، بعيدا عن روح العصر، ولكنه يعبر عن الصراعات والهزائم عبر آلاف السنين، التى انتهت بخلاص النفس البشرية. وقرأت «فاوست» لجونه، وقصائده الصغيرة، وقصة بوليفويس/ وأوغوليتو/ وأوندينة «حول أوغوليتو سأكتب لك فى المرة القادمة».. ولفيكتور هوجو أيضا، ما عدا، «كرومويل» و«هيرنانى».
والآن.. وداعا، بالله عليك أسدِ لى معروفاً، وهبنى مواساتك، واكتب ما استطعت، وأجب على رسالتى هذه، وسوف أحصى اثنى عشر يوما بانتظار جوابك، اكتب وإلا ستعذبنى حتى الموت.
أخوك ف. دوستويفسكى

فلنكتب كل يوم

بترسبورغ 16 آب 1839 

لدىّ مشروع، أن أفقد عقلى، حتى يقع الناس فريسة للغضب، ويتسنى لهم إعادتى إلى صوابى.
 لو قرأت كل «هوفمان» لتذكرت شخصية «آليان» كيف تجدها؟ انه الهول بعينه أن يرى المرء إنسانا له كل هذه السيطرة على كل ما لا يتصوره العقل، إنسانا لا يدرى ما يفعله! إنه يلعب لعبة تُدعى الرب.
دعنا نتفق على تبادل الرسائل، نكتبها كل يوم أحد. هذا حل أفضل، وصلتنى رسالة من «شرتك» ولم أجب عليها منذ ثلاثة أشهر يا للرعب! هكذا هى الحال دون نقود.
أجل، هذا هو حالنا يا أخى: نحن نعد باستمرار ولا نعرف إذا كنا قادرين على الالتزام «...» كيف إذن تفسر صمتى؟ هل يعنى هذا أننى كسول، أم اننى لم أفكر بك؟ لا... كل ما هنالك أن الأمر، أولا واخيرا، يتعلق بعدم توفر النقود.. أنا لا أملك ولو قرشا واحدا منها.والآن أنا سعيد بشكل لا يوصف، لمجىء هذا الضيف المفقود، لمجىء النقود، وها أنا أكتب اليك، فدعنا نثرثر قليلا. أخى العزيز: كم ذرفت الدموع لوفاة والدى. حالنا أصبح أكثر مدعاة للشفقة، إننى لا أتحدث عن نفسى، وإنما عن العائلة «...» وأنت ايضا، عليك أن تتحمل الكثير من المتاعب.
لا تعبأ بالأرواح الصغيرة المهمومة، وكن أهلا لما فيه صنع الخير، فأنت الوحيد الذى يقوى على إنقاذ شقيقاتنا واشقائنا، لأنك أدركت معنى الصبر فاتبع نواياك، وليهبك الله القوة.
ماذا أحدثك عنى؟ منذ وقت طويل وأنا لم أصارحك القول، ولا أعلم إن كان ظرفى يسمح بذلك لا أدرى ولكنى الآن غدوت انظر إلى ما يحيط بى بمزيد من اللامبالاة، ولكن يقظتى أصبحت أكثر توقدا. إن هدفى الوحيد أن أكون حراً، وبوسعى أن أضحى بكل شىء من أجل ذلك، برغم أننى أفكر غالبا بما ستأتينى به هذه الحرية، وما الذى سأكونه وسط هذه الجموع المجهولة؟ بإمكانى التغلب على كل هذه الأفكار، ولكنى أعترف أن ذلك يتطلب ايمانا كبيرا بالمستقبل، وثقة عالية بالنفس وما على الآن إلا أن أعيش بأملى الحاضر، وليكن ما هو كائن بعد هذا، سواء أتحقق هدفى أم لم يتحقق، فاننى سأقوم بما يجب القيام به.
إننى أثمن اللحظات التى أكون فيها منسجما مع الحاضر «وهذه اللحظات بدأت تتوالى» وفى هذه اللحظة، بالذات أرى ما أنا عليه بوضوح أكبر، وأنا مقتنع تماما أننى سأحقق آمالى المقدسة.
«...» ضمن هذه الحوارات الفكرية تتفتح شخصيات قوية، والنظرة المتجهمة تكتسب وضوحا، والايمان بالحياة يجد له نبعا ساميا.
روحى مغلقة بوجه النزوات العاصفة السابقة. كل ما فى داخلى هادئ، كما هو فى قلب كل انسان يحمل سرا غامضا. ومع ادراك ما تعنيه الحياة ويعنيه الانسان، سأجد نفسى بسهولة «..».
أنا أؤمن بـ، والإنسان هو السر، وعلى المرء اكتشافه حتى لو أفنى سنوات عمره «...» لقد بدأت باكتشاف الانسان، هذا السر، لأننى أطمح أن أكونه... وداعا.
صديقك وشقيقك ف. دوستويفسكى
«...» فى الأحلام والأفكار تبدو الحياة أكثر عجالة وتسرعا، «...» الحب، الحب، أنت تقول إنك تقطف ثماره! يبدو لى أن ما من أحد أكثر قدسية وإنكاراً للذات مثل الشاعر، ولكن كيف يتسنى للمرء أن يأتمن الورق شغفه وحماسته؟ فالروح تخبئ أكثر مما ترى فى الكلمات، وأكثر ما تستطيع الألوان والأنغام التعبير عنه.

لست مستعدا لهدر أفضل أوقاتى من أجل لا شىء 

أخى الحبيب

استلمت ترجمة «دون كارلوس» وأود أن أرد سريعا على رسالتك «لضيق وقتى» أعتقد أن الترجمة جيدة جدا، وبعض مقاطعها جيدة بصورة مدهشة، ولكن هناك بعض الأسطر رديئة بعض الشىء، إنها مجرد خمسة أو ستة سطور فقط، ولكننى تجرأت قليلا واعدت كتابة بعضها لاضفاء بعض الأوزان الموسيقية اللازمة.
إن ما يثير الغضب، فعلا، هو استخدامك بعض المفردات الاجنبية هنا وهناك، مثل مفردة komolott، فلا يجوز أن يتكرر هذا ثانية! وتستخدم ايضا كلمة sire ولو أنى لا أعرف أصلها، وما اعتقده أنها كلمة غير اسبانية، وإنما أوروبية غربية نورمانية الاصل «...» الترجمة جيدة جدا، أفضل مما توقعت وسوف أرسلها إلى أولئك الأغنياء فى Repertuar ليفتحوا افواههم دهشة، أرجو أن تطمئن فأنا لن أبيعها لقاء لقمة خبز مع الزبدة.
«...» فيما يتعلق بنسخة، «شيللر» فإننى أوافقك الرأى تماما، وقد أردت أن أنصحك بنشر «اللصوص» و«فيسكو» و«دون كارلوس» و«كابالا» و«رسائل دون كارلوس» بالدرجة الاولى إنه لأمر جيد عليك بترجمتها ولا تهمك النقود فستحصل عليها بطريقة ما «...» ولا تطل أكثر من شهر واحد عليك أن تقرر ولا تتأخر أكثر من هذا، وإلا ستهلك ماديا. لى رغبة فى كتابة بضعة أسطر حولها فى «الريبرتوار» «Repertuar» وستكون ترجمتها حدثا مهما »حتى نجاحها القليل سيأتينا بالربح والآن يا أخى  لابد أن تدرك بأنى أعيش تحت وطأة ظروف جحيمية، ساشرحها لك! فقد قدمت استقالتى «...» واقسم لك، أنى لم أعد أحتمل الخدمة ولست مستعدا لهدر أفضل أوقاتى من أجل لا شىء «...» ولم أضيع أجمل سنوات عمرى هدرا.
والمهم، هناك من يريدنى أن أخضع له وأأتمر بأوامره، قل لى ما عساى أن أفعل بعيداً عن بترسبورغ؟ وما الذى سأكون عليه؟ أتفهمنى؟ أما ما يتعلق بشئونى الحياتية فلا تقلق مطلقاً إنها قطعة خبز ولابد أن يجدها المرء.
سأواصل العمل بشكل جهنمى، ولكن ما عساى أن أفعل، وما الذى أبدأ به هذه اللحظات؟ هذا هو السؤال.
تصور أن ديونى بلغت 800 روبل، 525 منها للمستأجر، كتبت إلى الأهل بأننى مدين بـ1500 روبل، لأننى أعلم أنهم لن يرسلوا لى أكثر من ثلثها، ولم يعلموا حتى الآن باستقالتى، ولو عرفوا لا أدرى ما الذى سيكون عليه موقفهم! إننى لا أملك «كوبيكاً» لشراء الملابس (.....) ولكنى مازلت، برغم ذلك، متفائلاً.. وها إنا على وشك أن أنتهى من رواية وضعتها ضمن إطار Eujenio Grancal، إنها رواية أصيلة، وقد بدأت بإعادة كتابتها للمرة الرابعة عشرة، وسوف يصلنى الجواب بنشرها، وسأقدمها إلى «أونيتشيفينيا سايبسكى» لشعورى بالرضا تجاهها، ولربما سأنال 400 روبل لقاء نشرها، كم بودى أن أتحدث إليك حول روايتى هذه، ولكن لا وقت لى (ومن المحتم أننى سأكتب مسرحية).
أما «كيرستين» فهو خنزير غبى، وهؤلاء الموسكوفيون، متغطرسون، ومحدودو الأفق، ووعاظ، مثلاً «كاربين» كتب لى مؤخراً لينصحنى بعدم إبداء إعجابى بشكسبير، يقول: «إن شكسبير وفقاعة الصابون هما شىء واحد»، ما شأنه وشكسبير؟ لقد أحبته برسالة شتائم فريدة، وأنت تعلم أن رسائلى هى عبارة عن إنجاز أدبى.
اكتب لى سريعاً، أو تعال بحق الخالق فأنا فى ورطة كبيرة (....) اطلب منهم أن يبعثوا لى بقليل من النقود، وأهم من ذلك، أنا لا أملك ما أرتديه.
«شلستاكوف» وافق على أن يدخل السجن، ولكن بطريقة محترمة، أما أنا فكيف سأبدو محترماً دونما بنطلون؟
«كاربين» يسكر، ويتغوط، ويحتسى الفودكا، ويرتدى حلته الأنيقة و«يؤمن بالله» أنا مقتنع تماماً بروايتى، وفرحى لا يسعنى (.....) اعذرنى لعدم ترابط رسالتى!


أنا محكوم بطاقة حياتية لا يمكن أن  تضنى

بترسبورغ - قلعة بيترس باول ١٤/٩/١٨٤٩ 
أخى الحبيب

رسالتك والكتب (شكسبير والكتاب المقدس وجريدة سايبسكى والعشرة روبلات) وصلت جميعا (...) سررت لصحتك الجيدة، أما أنا فمازلت أعانى من أوجاع المعدة (والقىء الدموى) ولا أعلم متى ستنتهى هذه الآلام، ومها قد جاءت أشهر الخريف، وجاءت معها الهيبوكندريا (توهم وجود مرض غير موجود).
السماء متبلدة بالغيوم، من أين لى أن أرى زرقتها من المخبأ؟ إنها توفر لى الراحة وصفوة الحياة الروحية بالرغم من كل شىء مازلت على قيد الحياة، وبصحة جيدة، أرجوك أن تشغل بالك بوضعى المتردى السيئ، فقد كنت أتوقع الأسوأ، ولكن أنظر الآن، فأنا محكوم بطاقة حياتية لا يمكن أن  تضنى.
أشكرك لما أرسلته لى من كتب، إنها تسرّى عنى، وتهبنى المتعة، فقد قاومت أكثر منذ خمسة أشهر، وبمحض طاقتى الذاتية للاعتماد على الذهن فحسب، أما الآلة فمازالت تعمل دونما إخفاق أو خذلان، برغم أن التفكير، دون تعبير خارجى، يولد أفكاراً أخرى، ويا له من أمر صعب! إننى أشعر كما لو كنت فى غرفة مفرّغة من الهواء، كل ما فى داخلى تجمع فى الرأس وتحول إلى صور وأفكار، كل شىء كل شىء على الإطلاق، وقد أخذت هذه العملية تزداد يوماً فيوماً، وبالرغم من أن الكتب تساعدنى كثيراً، ولكنها بمثابة قطرة ماء فى بحر، فقد قرأت بشكل خاص كتب شكسبير، أما الرواية الإنجليزية فى «ونيتشسنزفينيا سايبسكى» فهى جيدة جداً، فى حين تظل كوميديا «تورغينيف» سيئة جداً، إن خطه لسيئ حقاً (...) فأنا لم أستطع التعرف عليه من خلال هذه الكوميديا، إنها تفتقد إلى الأصالة (ففى السابق) كان يعالج كل شىء بشكل أفضل، أما المشهد الأخير فإنه ركة طفولية واضحة، ولكن يظل هنا وهناك ما هو جيد نسبياً لانعدام الجودة عموماً.
 الرسائل  منشورة فى مجلة الكرمل ١٩٨٨
ترجمة: تحرير السماوى

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة