جمال فهمي
جمال فهمي


من دفتر الأحوال

أخلاق الأكابر

جمال فهمي

الأربعاء، 24 نوفمبر 2021 - 05:23 م

حاولت ، لكنى فشلت ، أن اتجنب أى تعليق على الضجة المخجلة  التى تفجرت فى وجوهنا مؤخرا على السنة بعض منتجات الخراب العقلى والروحى والاخلاقى الذى ضرب مجتمعنا فى عقود الزمن الأخيرة .. واقصد تلك التى حملت عنوانًا واحدًا من أجمل مسرحيات الأديب والفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر ، «المومس الفاضلة».

وهى فاضلة حقا إذ تتمتع بضمير حى وأخلاق رفيعة ربما يفتقر إلى مثلها كثر ممن يملؤون دنيانا الآن ضجيجا جاهلا مقرفا حول نص أدبى ترجم إلى العربية منذ نحو 60 عاما ، وعرض على مسرحنا القومى العريق فى زمن تألق وازدهار صرنا نتوق اليه ونتمنى عودته.

 هذا الضجيج الشنيع  ذكرنى برواية رائعة قرأتها وأنا مازلت فى مرحلة العمر اليافع وأشرت إليها هنا قبل بضع سنوات .. أنها رواية الأديب الفرنسى الكبير جى دى موباسان (1850ـ 1893) وتحمل اسم بطلتها  «بول دى سويف».

أما حكاية «بول دى سويف» التى اقتبسها المخرج الروسى الكبير «ميخائيل روم» فى ثلاثينيات القرن الماضى وصنع من وحيها فيلما سينمائيا بالغ الروعة ، تبدأ حسب الفيلم ، من مشهد يصور مجموعة من «الأكابر» ، يتنوعون بين تجار كبار وأعيان ، هؤلاء يتحركون فى قافلة  مسافرة إلى مكان ما فى فرنسا التى كانت أيام الرواية تعانى من هزيمة مرة على يد القوات الألمانية التى احتلت أغلب أراضيها بعد أسر نابليون الثالث.

تبدو رحلة المسافرين «الأكابر» هؤلاء ناعمة لا يعكر صفوها شىء حتى وهى تمر على نقاط تفتيش أقامها جنود الاحتلال ، لكن تشاء الأقدار أن تنضم إلى الرحلة فى الطريق مواطنة فقيرة اضطرها العوز لبيع جسدها لمن يدفع .. أنها «بول دى سويف» التى أدى دخولها بالصدفة قلب هذا الجمع الملمع إلى توتر واستنكار لوجود سيدة غلبانة من هذا النوع فى معية «مواطنين شرفاء» راح أغلبهم يعبر بفجاجة عن القرف والتأفف من اقتحامها اجواء رحلتهم .. وحينما حاولت المسكينة  أن تكسر طوق عزلتها عن هذا «القطيع الراقي» وراحت تتودد لهم وتدعوهم أن يشاركونها طعامها البسيط  ، كانت النتيجة أن زاد الاستهجان وتفجرت حمم القسوة والجلافة بكثافة أكبر.

ظل الأمر على هذا النحو طوال النهار فلما هبط الظلام وحل الليل اضطرت القافلة للتوقف وأمضى الركاب ليلتهم فى استراحة على الطريق، وفى الصباح تأهب الجميع لاستئناف الرحلة .. هنا حدث ما سيكشف حقيقة أخلاق كبار القوم و»شرفهم» الكاذب ، إذ استوقف واحد من الضباط الألمان القافلة وأبلغ ركابها بوضوح وصرامة ، أنه لن يسمح لهم بالعبور من نقطة التفتيش التى يقودها ، إلا إذا قبلت رفيقتهم «المومس» أن تطارحه الغرام!!

بسرعة بدأت أقنعة «السادة الملمعين» تسقط كاشفة عن هشاشة ضمائرهم ووضاعة أخلاقهم ، فقد راحوا فورا يعبرون عن عدم الشعور بأى مشكلة فى تحقيق طلب الضابط الألمانى ، فرفيقتهم البائسة «شغلتها» بيع الهوى لكل من يطلبه ، والثمن هذه المرة هو سلامة الركاب جميعا بمن فيهم هي!!

غير أن «دى سويف» تفاجئ زملاءها الأشراف بالرفض القاطع ، وتقول ما معناه: كيف ألاطف ضابطًا من جيش يحتل بلادي؟!.. فإذا بالشرفاء يجاوبونها برقة وود زائدين: نحن يا أختاه نقدر مشاعرك الوطنية ونعرف مدى حبك لفرنسا  ، لكنك لو استجبتى لطلب هذا الضابط ، فأنت فى الواقع سوف تقدمين خدمة جليلة وتضحية كبرى من أجل الوطن!!

لم تحتمل بائعة الهوى المسكينة ضغوط «الشرفاء» التى تصاعدت وازدادت إلحاحا وتنوعت ما بين الرجاء الحار ومعسول الكلام ، وفى النهاية أذعنت وذهبت وهى بغير روح ومكسورة القلب ، إلى مخدع الضابط الألمانى وعندما عادت تجرجر جثتها ويسحقها الحزن، أنطلق «الشرفاء» يسـتأنفون رحلتهم وهم فرحون بالنجاة .. فهل تغيرت معاملتهم الأولى لرفيقتهم الغلبانة؟! نعم تغيرت ولكن للأسوأ ، فقد راح «الأنذال» الكبار يصبون عليها بوقاحة سيول من السخائم وعبارات القرف والاحتقار والمعايرة ، بأنها مارست الخطيئة مع واحد من جنود العدو!!

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة