إيهاب فتحى
بـدايـة الطـريـق
الخميس، 02 ديسمبر 2021 - 02:18 م
قدمت احتفالية افتتاح طريق الكباش بالأقصر عشرات الرسائل والأسباب التى تؤكد على أهميتها، فنظر البعض إلى الاحتفالية إلى أنها ستكون الحدث المؤثر فى الترويج والجذب السياحى على مدار الفترات القادمة وهى بالتأكيد أسهمت فى ذلك نتيجة المتابعة الدولية للحدث.
هناك من رجح سببًا آخر فى الاهمية نتج عن بهجة الاحتفالية وحسن التنظيم وأجواء الامان والاستقرار الذى تمت فيها وأن العالم رأى كل ذلك عبرالشاشات ووسائط السوشيال ميديا مما يعكس الصورة الحقيقية لمصرالآن، هذا أيضاصحيح تماما لأن مصربالفعل تعيش هذه الأجواء من الامان والاستقرار وكان لايمكن لاحتفالية بهذا الحجم وقبلها موكب نقل المومياوات أن تحدث إلا فى ظل دولة تديرمقدراتها بكامل الاريحية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
تم الربط بين احتفالية طريق الكباش وموكب نقل المومياوات الذى جرت فعالياته قبل أشهرمعدودة بأن الحدثين الرائعين هما إشارات مضيئة من منارة الهوية المصرية تدل على أنها تعمل الآن لكى ترشد أجيالًا من المصريين تعرضوا لهجمة ظلامية شرسة طوال عقود أثرت بالسلب فى تعاملهم مع مفهوم هويتهم .
تعطى هذه الإشارات لتلك الأجيال إحداثيات الوصول الى شاطئ هويتهم ليستقروا عليه بعد عقود من التيه فى بحر متلاطم من الهويات البديلة، هذا أمرآخرتحقق بشكل واضح ويبينه حجم التفاعل الإيجابى من كافة شرائح المجتمع مع الاحتفاليتين على وسائط السوشيال ميديا أوفى الأحاديث المباشرة التى تدور بين المصريين خلال اللقاءات التى تجمعهم.
بالتأكيد حققت الاحتفالية كل الأهداف وأرسلت كافة رسائلها الإيجابية إلى الداخل والخارج، ولكن هل كانت احتفالية افتتاح طريق الكباش وقبلها موكب نقل المومياوات مجرد دلالة على كل ماتحقق من ورائهما وعلامة على أن هذه الهوية المصرية الأصيلة من حين لآخر تطلق إشارتها الإرشادية فقط ؟ أعتقد أن الأهداف المتحققة و الرسائل التى أرسلت لا تعطى للحدثين كامل حجمهما وتأثيرهما العميق فى وجدان هذه الأمة وتحولاتها إلى الأفضل التى تجرى منذ العام 2013 ،هذا العام المفصلى المرتبط بثورة الـ 30 من يونيو وفى نفس الوقت فإن هذا التأثير العميق للاحتفاليتين فى الداخل لابد أن يغير زاوية الرؤية من الخارج إلى هذه الأمة التى تعيد الاتصال بجذرها الحضارى الأصيل من جديد.
عندما نتوقف عند حجم وعمق التأثير الداخلى وانعكاسه على زاوية الرؤية من الخارج سنجد أننا أمام إحياء المشروع الحضارى المصرى والذى تعمل عليه الدولة المصرية الحديثة بكامل طاقتها وإرادتها السياسية مستخدمة فى هذا الإحياء كافة قدراتها وقواها الناعمة، وأن هذا المشروع المصرى لا يرتبط فقط بأهداف أنية رغم أهميتها ولكنه فلسفة تم الاستقرار عليها لتكن هى البوصلة المرشدة والاستراتيجية التى تعطى الرؤية الكاملة للدولة المصرية حين اتخاذ القرار على كافة المستويات.
لم تكن الاحتفاليات الحضارية التى توالت والتأكيد على مفهوم المواطنة القائم على الهوية المصرية يدخلان فى نطاق تحقيق أهداف مرحلية للعمل السياسى والاقتصادى الذى تقوم به الدولة المصرية ولكن كل مانراه هو نتاج هذه الفلسفة والاستراتيجية والتى تؤكد بلا شك أن هناك خارطة طريق تسير عليها الدولة المصرية متعددة الأهداف أولها تحرير الهوية المصرية من أدران الهويات البديلة التى تسللت فى فترات اضطراب إلى الشخصية المصرية وصنعت حاجزًا من الشك بين المصريين وهويتهم الأصيلة.
لا يعطى هذا التحرير وإزالة آثار العدوان على الهوية والشخصية المصرية مجرد شكل تريد خارطة الطريق تحقيقه بأن نقول نحن مصريون نعتز بهويتنا وكفى، لكن الفلسفة والاستراتيجية التى تأسست عليها خارطة الطريق تعنى العودة إلى جذر الحضارة المصرية وهل تعنى العودة إلى هذا الجذر الحضارى العريق والثابت استلهام الشكل فقط حتى نقول أيضًا نحن مصريون قلبًا وقالبًا؟
الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تدفعنا للبحث الموجز فى طبيعة الحضارة المصرية وبالتأكيد يحتاج الحديث عن طبيعة حضارتنا الملهمة عمل موسوعى وليس سطورا قليلة، ولكن يجب الإشارة الموجزة لروح هذه الحضارة التى تأسست على قواعدها تجليات الفكر الإنسانى منذ القدم.
تعطى مشاهدة المنجز الحضارى الذى أسسه المصرى القديم صورة واضحة عن تجلي هذا المنجز فى كافة مجالات الإبداع الإنسانى من الفنون والعمارة إلى الآداب إلى شتى صنوف الحكمة حتى نصل إلى العمل المؤطر لكل هذا وهو تأسيس فكرة الدولة المنظمة للحياة الإنسانية، وهى الفكرة التى نقلها المجتمع البشرى عن الحضارة المصرية لينظم وجوده وحركته على هذا الكوكب، أورث المصرى القديم إلى أبنائه وأحفاده ولأجيال ممتدة لسبعة آلاف عام هذا المنجز بكل طاقته وإبداعه .
يعتبر الأساس فى روح المنجز الحضارى المصرى هو العقل الذى ينتج العلم وأى تجلى للحضارة المصرية ستجد حاضرًا فيه بثبات ورسوخ كل من العقل والعلم، ولأن منجز الحضارة المصرية كثيف ومتعدد يمكن فقط التطلع إلى هذه الأهرامات المتحدية لمجرى الزمن فهذه الصروح قامت على قواعد من علوم التخطيط والإدارة التى تديرها الدولة المنظمة إلى علوم الهندسة والفلك حتى يظهر إلى النور هذا الصرح، وفى كل عمل قامت به الحضارة المصرية على هذه الأرض ستجد أن العقل والعلم هما من يشكلان إطارهذا العمل.
لم يكن فقط العقل والعلم حاضرين فيما نراه من منجز معمارى مصرى يتحدى الزمن بل كانا حاضرين فى مدونة السلوك المصرى التى تحكم التعامل مع شتى مجالات وقيم الحياة الإنسانية مثل التعامل مع الآخر إلى المرأة إلى قواعد الدفاع عن الأرض وتغليب قيم العدل والتسامح والحكمة على كل قيمة أخرى ، هذه هى روح وقلب الحضارة المصرية ولكن فى فترات الاضطراب حدث التيه والانحراف عن روح وقلب هذا المنجز القائم على العقل المنتج للعلم والحضارة.
الآن تأتى فلسفة واستراتيجية الدولة المصرية الحديثة لترسم خارطة طريق وتبنى مشروعًا مصريًا وطنيًا من أجل استعادة روح هذه الحضارة العظيمة، بمعنى آخر أنها تعمل على تأسيس وترسيخ وجودها الحديث على قاعدتى العقل والعلم وفى نفس الوقت تحرر وتزيل ما خلفته فترات الاضطراب من ظلامية وسيادة للخرافة على العقل المصرى والشخصية المصرية.
تدرك الدولة المصرية الحديثة بذكاء أن ما لحق بالعقل والشخصية المصرية فى فترات الاضطراب من تأثيرات أبعدته عن أصله الحضارى العظيم لم يكن هينًا فى أثره ولا يصح فى مواجهته المباشرة أو التلقين، لذلك فإن خارطة الطريق تدير نفسها بهدوء بعيدًا عن البطء وبقوة ناعمة من خلال عملية إحياء متواصلة غير منقطعة للجذر الحضارى المصرى بتجليات مختلفة من الاحتفاليات التى تستدعى المشهد الحضارى المصرى العريق بالصورة والصوت أمام أجيال شابة لم تتح لها الفرصة فى الاتصال بحضارتها العظيمة إلى استلهام النسق المعمارى المصرى فيما يتم تشييده الآن من إنجازات لتعتاد العيون وتنطبع فى العقول جماليات هذه الحضارة فتقضى على القبح الذى أفرزته عقود الاضطراب والظلامية.
تجذب دائما بهجة الاحتفاليات وروعة فن المعمار الأنظار، لكن هناك عملا دؤوبًا آخر ترسخه خارطة الطريق فتمكين المرأة وتأسيس قواعد حقوق الإنسان والمواطنة وحزمة الرعاية الاجتماعية هو عمل مستمد من المدونة السلوكية الحضارية المصرية التى اقتبس منها العالم حداثته، وأن ما تقوم به الدولة المصرية من عمل ماهو إلا عودة إلى جذورها الحضارية وليس نقلا لحداثة هى بكل المقاييس حداثة نقلها المجتمع الإنسانى بكل تطبيقاتها عن حضارتنا.
رغم ما تحققه وحققته خارطة الطريق فى وقت قصير إلا أن أعمال هذه الخارطة مازالت فى بدايتها وستعمل على تحرير العقل المصرى بالكامل من آثار عدوان الظلامية والخرافة، أما أثر هذا التحرير واكتمال العمل مستقبلا فهو سيكون فارقًا بإيجابيته فى حركة الأمة المصرية داخليًا وخارجيًا على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لأن هذا الحراك قائم على العقل المنتج للعلم.