أسامة عجاج
أسامة عجاج


يوميات الأخبار

عندما استُشهد عرفات مرتين

أسامة عجاج

الخميس، 02 ديسمبر 2021 - 06:19 م

 

تاريخيًا شهادة وفاة عرفات (كتبت رسميا) فى نوفمبر  ٢٠٠٤، ولكنها بدأت (فعليا) فجر  ٢٩ مارس ٢٠٠٢، عندما حاصرت إسرائيل مقر عرفات وعانى من (انقلاب أبيض عليه) 
 

وهكذا بعد أربعين عامًا بالتمام والكمال، تمكنت إسرائيل من النيل من عدوها رقم واحد ياسر عرفات، بعد إعلان وفاته فى أحد المستشفيات الفرنسية فى أحد أيام نوفمبر ٢٠٠٤، حيث تشير الوقائع إلى أن بداية استهدافه كانت فى عام ١٩٦٤، مع تعاونه وعدد محدود من الفلسطينيين، على تشكيل حركة فتح، باكورة النضال المسلح الفلسطينى ضد الاحتلال الإسرائيلي، حيث رصدت الموساد حركة نشطة منهم، فى إحدى مدن ألمانيا الغربية، وتوقفت عناصر الموساد عند اسمين، هما ياسر عرفات وخليل الوزير أبو جهاد، وهو أيضا قصة عظيمة لأحد رموز المقاومة ضد إسرائيل، لعلى أعود إليها مرة أخري، أما عرفات فقد تجاوزت عدد محاولات اغتياله ٤٠ مرة، حكى لى بعض تفاصيلها ذات ليلة عندما التقيته فى أكتوبر ٢٠٠٢، بعد اقتحام إسرائيل لمقره فى وسط مدينة رام الله الشهير (بالمقاطعة)، سيرة عرفات تقول إن العناية الأهلية أنقذته عندما، سقطت طائرته فى الصحراء الليبية، قبل أن يتم اكتشاف موقعه وإنقاذه فى أبريل ١٩٩٢، كما نجحت المقاومة الفلسطينية البطلة فى حمايته، والحفاظ عليه أثناء غزو شارون للعاصمة بيروت فى يونيو ١٩٨٢، كما ساعده حذره وحسه الأمنى من الإفلات من عشرات المحاولات لاغتياله.


حيرة عرفات  


ودعونا نتفق أن أمر القضية الفلسطينية، اختلف منذ الإعلان عن بدء عمل السلطة الوطنية واتفاقية أوسلو، وعودة عرفات للعمل من مكتبه فى قطاع غزة، أو من المقاطعة فى رام الله، التى اعتبرت عاصمة مؤقته لحين تحرير للقدس،  ومن يومها عاش أبو عمار حائرا بين (منطق الحاكم)، (ومستلزمات الثائر)، فهو رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، أى (رجل دولة) حتى لو لم يتم الإعلان عن قيامها، وبين (زعيم تنظيم مقاوم) ينظر بعين العطف والرعاية والدعم، لأى عمليات مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأحد عيوب السلطة، أنها ساهمت فى خلق مراكز قوي، بعد تعدد الأجهزة الأمنية، مع تراجع دور القادة التاريخيين فى حركة فتح، مما سمح لإسرائيل اللعب على تناقضات تلك القيادات، (ودق أسافين) بينهم، بل رشحت تقارير إسرائيل وتصريحات مسئولين بعضهم لخلافة عرفات، وهى القضية المطروحة إسرائيليًا، بعد أن اكتشفت أن أبو عمار الثائر مازال أكثر تأثيرًا وسطوة على ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية، فظل السؤال المطروح دائما إسرائيليا منذ ذلك الوقت، ومع كل أزمة – وما أكثرها فى تاريخ القضية– بعد اتفاقية أوسلو، متى يتم التخلص من عرفات.   


خطة الاغتيال 


وأدركت إسرائيل فى وجود عرفات داخل أراضى السلطة، أن الفرصة جاءت وأصبحت سهلة، لاتخاذ قرار اغتيال عرفات، والذى تم على مرحلتين استغرقت حوالى ثلاث سنوات، وكل منهما تم بأيدى إسرائيلية، وبمساعدة من الدائرة الضيقة للرئيس الشهيد ياسر عرفات، وسط صمت أو غض الطرف من المجتمع الدولي، (المرحلة الأولي) تم اتخاذ قرارها رسميا من قبل شارون رئيس وزراء إسرائيل وأحد الأعداء التاريخيين لأبو عمار، بعد اندلاع الانتفاضة الثانية فى ٢٨ سبتمبر ٢٠٠٠، واعتبار عرفات المسئول الأول عنها، والتنفيذ اتخذ أشكالًا مختلفة ومراحل متعددة، وكانت البداية منعه من الخروج من مكتبه، عبر حصار مدينة رام الله فى الثالث من ديسمبر من نفس العام، وهو الذى عاش (كالرحالة) حيث اعتاد السفر إلى كل بقاع العالم، فتطور الأمر فى ليلة ٢٩ مارس ٢٠٠٢ حيث ضيقت القوات الإسرائيلية الخناق أكثر وأكثر، بحصاره فى المقاطعة، حيث مقره ومعه ٢٨٠ من مرافقيه وعدد محدود من عناصر الحرس الرئاسي، ويومها اقتربت القوات الإسرائيلية من مكتب عرفات حيث وصل صوته إلى العالم وهو يخاطب ضمائر ماتت وهو يقول: (لن أموت اسيرا ولكنى سأموت شهيدا)، ومعه سلاحه الشخصى، رافق ذلك حرب حقيقية على الصعيد السياسي، اتخذت مسارين الأول  يخاطب العالم والغرب، وشاركت فيه أمريكا داعمة لإسرائيل، عنوانه أن وجود شخص عرفات هو (العائق الوحيد أمام حل القضية الفلسطينية)  ويجب التخلص منه وإزاحته عن المشهد، والمسار الثاني،  يداعب أحلام وطموحات الدائرة المحيطة بأبو عمار، ملخصه أن  السلطة الفلسطينية فى حاجة إلى إصلاحات سياسية وهيكلية، والبداية فى اختيار رئيس الوزراء لإدارة الأمور بدلًا منه، وعندما سألته فى لقائنا الأخير فى مقره المحاصر، على تلك الجزئية فى أكتوبر ٢٠٠٢، قال ولديه كل الحق (من قال إننا ضد الإصلاح، إنه يسير على مستويات أمنية، بترتيب قواتنا فى مصر والأردن وأمريكا، حيث تتلقى مجموعات التدريب على أيدى خبراء أمريكيين فى مدينة أريحا، والمسار المالى بتعيين سلام فياض وزيرا للمالية، أما مسالة رئيس الوزراء، فسيتم الإعلان عنه فور إعلان الدولة، والمدهش فى الموضوع، أن تل أبيب لا تعترف بى كرئيس، ولكنها تضغط باتجاه تعيين رئيس حكومة، وتتعامل معى ليس كرئيس، ولكنى كما لو كنت مديرا تنفيذيا لشركة).


انقلاب أبيض 


 وعاشت دوائر السلطة خارج مقر أبو عمار المحاصر، فى تلك الفترة وقائع (انقلاب أبيض)، وقد كتبت عن تفاصيله فى ذلك الحين تحقيق استقصائى نشرته فى صحيفة أخبار اليوم فى ١٩ أكتوبر ٢٠٠٢، ويتعلق بمذكرة تم إرسالها عبر الفاكس، وقع عليها ١٤ من قيادات حركة فتح، وأركان مهمة فى السلطة، تتضمن المطالبة بالإصلاح وتعيين محمود عباس رئيسا للوزراء، واستلزم التحقيق الاستقصائى حوارات مع عديد من رموز السلطة، حول  الأمر  ، ومنهم أبو مازن، وتوفيق الطراوي، أحد الذين لم يغادروا مقر عرفات طوال الحصار، وكذلك وزير الإعلام الأسبق نبيل عمرو والدكتور مصطفى البرغوثي، وغيرهم الكثير، ومن خلال اختلاف الآراء حول حقيقة ما جرى بين التأكيد والنفي،  فرؤيتى لما حدث، انه انقلاب ابيض بكل المقاييس رغم محاولة التهوين مما حدث وأمر المذكرة  من بعض من التقيتهم،  فلم يكن من المناسب أبدا، إرسال أى مذكرات أو مطالب لرئيس محاصر، فما بالك إذا كانت تطالبه بالإصلاح، وهو لا يستطيع الخروج من المقاطعة، صحيح استطاع عرفات أن يتعامل مع الأمر بحكمته وحنكته السياسية، وقدرته على تحريك الأنصار والمؤيدين من قواعد فتح، التى رفضت المذكرة برمتها، وتمسكت بقائدها ورمز ثورتها، ولكنه عانى بعدها من مرارة، بعد أن استشعر القول المأثور، (اللهم احمنى من أصدقائي، أما أعدائى فأنا كفيل بهم)، وهاهو هذه المرة يتفق الأعداء مع الأصدقاء عليه، متوافقًا مع ضغوط دولية وإقليمية عليه، وحصار بشع من قبل الإسرائيليين، مما أثمر عن تعيين محمود عباس رئيسا للوزراء ووزيرا للداخلية، فى الفترة من مارس ٢٠٠٣ وحتى سبتمبر، وقدم استقالته بعد خلاف مع عرفات حول الصلاحيات، ومثل الأمر الاستشهاد الأول للزعيم ياسر عرفات، لتبدأ نهاية القصة الحزينة. 


نهاية المشوار 


ومرت الأيام من سيئ الى أسوأ، صراع مفتوح على كافة المستويات، مع اليمين الإسرائيلي، واستمرار الحصار، والرجل يدرك أنه يخوض معركته الأخيرة، بدون أى عوامل تساعده هذه المرة على الصمود أو المقاومة، وسط صراع بين كافة الأجنحة داخل فتح والسلطة، الحرس القديم والقيادات الشابة، القيادات العائدة مع أوسلو، والأخرى التى استمرت فى داخل الوطن لم تغادره، ناهيك عن الخلاف بين من يؤيدون الاستمرار فى المباحثات مع إسرائيل، ومن ينحازون إلى خيار المقاومة الفلسطينية، واستمر الأمر على حاله، حتى كانت نهاية شهر أكتوبر ٢٠٠٤، عندما ظهرت أعراض مرض غريب على جسم عرفات، حار الأطباء من حوله فى تشخيصه، مع استمرار تدهور حالته الصحية، حيث تم نقله إلى أحد مستشفيات باريس، حيث عجز الأطباء عن علاجه طوال ١٣ يوما، حتى إعلان وفاته فى نوفمبر من نفس السنة، ورغم مرور ١٧ عامًا على الوفاة ليس هناك جزم بأسباب الوفاة. 


واختلفت الجهات التى تعاملت مع هذا الملف حول أسباب الوفاة، سواء الفرنسيين أو الروس، وكذلك السويسريون وإن كان الأمر فى الغالب يتعلق بتسمم بمادة لم يتم تحديدها، وقد شكلت السلطة الفلسطينية لجنة للتحقيق فى أسباب الوفاة برئاسة توفيق الطيراوى، والذى أشار فى تصريح فى مثل هذه الأيام منذ سنوات، بأن (لجنة التحقيق توصلت إلى الشخص الذى قام بعملية الاغتيال، وبقى لغز صغير يستلزم وقتا لاستكمال عملية الاغتيال) وتحول الأمر إلى مادة للصراع السياسى بين السلطة، وبعض المنشقين من حركة فتح، دون حسم، وإن كنت من المنحازين، الى مقاربة ناصر القدرة رئيس الملتقى الديمقراطي، عندما حمل فى تصريحات منذ أيام إسرائيل  عملية الاغتيال، وقال (جريمة بهذا الحجم تعنى أن إسرائيل هى من قامت بالتنفيذ ولكنه قد تكون حصلت على بعض التسهيلات، استنادا الى بعض الاختراقات الأمنية الفلسطينية).        

 
معركة مع شهيد


ولم تكتف تل أبيب بكل ما جرى وخاضت معركتها الأخيرة مع جثمان أبو عمار الذى أوصى بدفنه فى  مدينة القدس الشريف مكان مولده، وهو ما رفضته إسرائيل تماما وكان الحل الوسط إقامة مصر التى أحبها عرفات وأحبته أن يقام له جنازة رسمية حيث حطت طائرة مصرية حاملة الجثمان فى مقر المقاطعة مثواه الأخير ونجح الشيخ تيسير التميمى قاضى قضاة فلسطين والذى تولى عملية غسل ودفن الجثمان الطاهر بتنفيذ جزء من وصية الشهيد أبو عمار عندما أرسل من أحضر ترابا من المسجد الأقصى ووضعه أسفل الجثمان ونثره على الجثمان.. أبو عمار طبت حيًا، وطبت شهيدا.
 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة