زاهي حواس يكتب: أسرار جديدة عن طريق الآلهة
زاهي حواس يكتب: أسرار جديدة عن طريق الآلهة


زاهي حواس يكتب: أسرار جديدة عن طريق الآلهة

زاهي حواس

الأحد، 05 ديسمبر 2021 - 03:44 م

كان الاحتفال تجسيداً للحلم الذى عشته وأنا طفل فى تلك المدينة المبهرة. الأقصر مدينة القدماء، المنتصبين فى الشوارع والمعابد لحراسة الماضى، والاستمتاع بعرض يومى على مسرح الحاضر

اشتراكى فى أول رحلة إلى الأقصر كان يتوقف على مجرد كلمة من أبى وخمسة جنيهات، وقد وافق لحسن الحظ، ليمنحنى حكاية ممتعة. لم أصدق نفسى حينما هزَّ رأسه مبتسماً، فهذا يعنى أنه اعترف بى رجلاً يمكنه السفر إلى بلد بعيد بمفرده، رغم أننى كنت فى الصف الأول الإعدادى. المسافة إلى الأقصر تستغرق ساعتين من نجع حمادى، قطعهما أتوبيس الرحلات بسرعة الأحلام، كأنما كان يطير فوق طريق أبيض خفيف من السحاب يربط سماء المدينتين فى ذلك الشتاء البعيد، صادحاً بأغانى عمرو دياب وحكيم فى بداياتهما، حتى وصلنا فجأة ووجدنا كثيراً من الملوك والملكات فى استقبالنا.


لا أتذكر شعوراً مماثلاً بالدهشة انتابنى طوال حياتى، مثل ذلك الشعور الذى سيطر علىّ فى هذه اللحظات، وأنا أشاهد التماثيل فى كل مكان حولى بأحجامها المتنوعة. صوَّر لى خيالى الطفولى وقتها أننى يجب أن أجتاز أسواراً وأبواباً شاهقة لأشاهدها. كنت واحداً من هؤلاء السائحين الكثيرين فى شوارع المدينة، وبدت لى ملامح سكان الأقصر حولى أشبه بملامح التماثيل، وفكرت أنهم ربما يغادرون الجدران الأثرية والمعابد فى الصباح ليتولوا شؤون المدينة واستقبال السائحين وبعد أن ينام الجميع فى المساء يعودون إلى التسمُّر كتماثيل ونقوش فى أماكنهم المعتادة.


كان أمراً مثيراً بالنسبة لى كذلك رؤية هؤلاء السائحين ذوى القبعات والنظارات وهم يتحركون حولنا. شعرت بالاستغراب كأننى لا أتوقع رؤيتهم سوى فى الأفلام، وبالتالى بدأ شىء من الاهتمام داخلى ينصرف إلى السائحين بعد أن كان مقتصراً على الأجداد، ولم أكف عن تحريك رأسى فى جميع الاتجاهات موزعاً نظراتى على الغرباء وأصحاب الدار.


استمعتُ إلى شرح المرشدين عن كثير من الملوك، لكن لم يستقر فى ذهنى شىء أو اسم أو تاريخ معين، وظلت تلك الزيارة يلخصها انبهارى طوال سنوات طويلة بالأقصر، حتى عدت إليها ذات شتاء أيضاً فى مطلع الألفية الجديدة بصحبة الأستاذ جمال الغيطانى، ومثَّلت هذه الزيارة مفتاحاً حقيقياً لفهم تلك المدينة. كان الغيطانى يزورها غالباً فى الشتاء، ليستعيد الدفء حينما يعشش البرد فى القاهرة. كان الغيطانى واحداً ممن يملكون مفاتيح الأقصر. تحرك أمامى هناك بخفة شاب، دافساً جسده فى فتحة مقبرة أحد وزراء الزراعة الفراعنة، ودعانى أن ألحقه وألا أشعر بالخوف. فى هذه المقبرة رأيت السقف المتعرج، كأنه تعريشة عنب تتدلى منها مئات العناقيد الملونة. استفاض الغيطانى فى وصف إمكانيات رسامى المقابر. زرنا مدينتهم فى البر الغربى. كان رئيس الفنانين يصطحب مجموعات منهم، فيتحركون باتجاه مقبرة من المقابر. يتولى هو تخطيط المقبرة، كأنه يضع «الكروكى»، ثم ينفذون هم الرسومات، ويحصلون على مكافأتهم من الخبز والبيرة. فى مقبرة رئيس العمال رأيت كثيراً من رؤوس الآلهة على أجساد آلهة أخرى، وقال الغيطانى إن هذا لا يعنى أن المصرى كان يؤمن بكثير من الآلهة، فكل إله يتجسد فى صورة إله آخر، مثل أسماء الله الحسنى، كلها تجل لإله واحد. 


كان الغيطانى يتحدث عن أن ما يميز الأقصر هو أنها مدينة حياة لا مدينة موتى، يتجاور فيها الماضى والحاضر، ثم ظهر فى مواجهتنا حارس مقبرة أسمر، فقال الغيطانى ضاحكاً: «تلاقيه سهانا واتحرك من الجدار». اقترب الرجل البسيط منا بجلبابه، فأخرج الغيطانى تصريح الزيارة، الممهور بتوقيع رئيس هيئة الآثار وقتها، فقال الرجل وهو يغلق عينيه كأنه يمنحنا إحساساً بصعوبة الأمر، إنه يلزمنا توقيع آخر وإلا لن نكمل زيارتنا، فسأله الغيطانى بدهشة: «توقيع مين؟!»، فقاال الرجل باعتداد: «أنا»!. ضحك الغيطانى وسند الورقة على كف يده، عن طيب خاطر، ليوقع العامل عليها أسفل توقيع الموظف الرفيع.


تحدث الغيطانى حول كل شىء حولنا، بما فيها اكتشافات طريق الكباش المستمرة، وخطة التطوير، وبيوت القرنة التى أنشأها حسن فتحى، وقد استعدت كل ذلك وأنا أشهد الاحتفال بافتتاح الطريق الجديد، وتذكرت تلك الكباش الكاملة، ورؤس الكباش والبشر التى تعلو أجساد أسود. كان الاحتفال تجسيداً للحلم الذى عشته وأنا طفل فى تلك المدينة المبهرة. الأقصر مدينة القدماء، المنتصبين فى الشوارع والمعابد لحراسة الماضى، والاستمتاع بعرض يومى على مسرح الحاضر، أبطاله أحفادهم أبناء الأقصر

وأشخاص من مختلف الجنسيات يستمتعون بكل خطوة فى أى مكان، وبكل نظرة إلى أى اتجاه. يتبادل الأجداد النظر برضى وهم يستمعون إلى أصداء ثرثرات الجميع فى البيوت والفنادق والمراكب، ويرسلون إليهم التمائم، فتخترق النوافذ وتنشر الأحلام وتصحبهم فى رحلات ممتعة حتى يأتى صباح جديد ومعه يبدأ عرض جديد. 

 

أقرا ايضا | قنصل مصر بشيكاغو ينظم لقاء حول «طريق الكباش» بالأقصر

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة