لا أصدق أننى أجلس الآن لأكتب رثاءك. جمال الغيطانى الذى عرفته منذ وطأت قدماى بلاط صاحبة الجلالة. أنظر إليه وهو يأتى فى الصباح حاملاً حقيبة جلدية بها أوراق وأقلام. وعلى اليد الأخرى كتاب أو أكثر. يطل على الجالسين فى الصالة الكبيرة التى كانت تجمعنا بابتسامة مشرقة، ووجه يومض بالحياء، يجلس فى مكتبه، فى عالمه المصنوع من حرف وكلمة. سطور وورق. يكتب بقلم حبر على ورق. خطه كأنه رسم منحوت باتقان، تحب أن تتأمل سطوره، كأنها عقد مرصوص، مرصع المعنى، يفوح برائحة الزمن.

الزمن كان همه، وشاغله، كثيرا ما جعله التيمة الرئيسية لرواياته، وكتاباته، الزمن يا صديقى الذى يضحك علينا، ولا يضحك لنا. «يوميات شاب عاش ألف عام « ليس غريباً أن يكون هذا هو عنوان أول رواية لك كتبت مع صدورها شهادة ميلادك كأديب قدير، تلك الرواية التى عرفك من خلالها القراء والنقاد وحزت عنها جائزة الدولة التشجيعية، لقد عشت يا جمال يا غيطانى ألف عام فى بطون كتب التراث التى عشقتها، وكنوز فكر العباقرة الأوائل الذين صاحبتهم، وائتنست بأنفاسهم الطالعة من أوراق الكتب الصفراء من فرط القدم. أتذكر يا جمال كيف حاورت مولانا جلال الدين الرومى؟ واقتربت من شمس الدين التبريزى، وعلاء الدين المعرى والجاحظ والمتنبى؟ هل اشتقت للقائهم وجها لوجه بعد أن عشت معهم جميعا ألف عام على الورق؟
هل رحلت فعلا ؟! اعذرنى يا صاحب التجليات فالخبر جلل. ورحيلك يمثل عندى غياب قيمة رفيعة فى زمن عزت فيه القيم، وذابت المسافات بين أصحاب القامات وأصحاب الإفيهات ! القامات العالية يا صديقى توارت بين السحب غيبها الموت أو الذهول مما صارت إليه الحياة. جمال.. الذى حظى باسم يشبهه. نعم أحاديثك الشائقة، المعبقة بسحر الماضى ونكهة الثقافة الرفيعة. حكاياتك يا جمال ليس كمثلها حكايات. نعم لقد كنت حكاء بديعا، لا أنسى صوتك وحركات يدك وأنت تروى لى حكايات من الأزمنة الساحرة، أو الأزمنة الغابرة فى كلتيهما كنت رائعا، جذابا، يمتلئ المرء بشحنة عجيبة عند مجالستك هى مزيج من الإعجاب، والانبهار، والشغف.
فى مكتبك الصغير بالمبنى الصحفى بأخبار اليوم، حيث ترأست صفحة الأدب بالأخبار، وبعدها بسنوات زيدت إلى مسئولياتك رئاسة تحرير أخبار الأدب، كانت جدران المكتب تحمل صور أبطالك، شيكوف، ديستوفيسكى، شكسبير، وإلى جانبهم لوحات من كتاب وصف مصر، ورسومات للوحات كبار فنانى الفن التشكيلى فى العالم. بيكاسو، مونييه، أما الموسيقى فقد كانت الأنيس المقيم فى مكتبك. كل أنواع الموسيقى كلاسيكية، عربية، تركية، إيرانية، أندلسية، صوفية.
ما هذا الجمال يا جمال ؟
ما هذا الجمال الذى صنعت من قشه عشك الصغير البديع ؟ الفن بكل ما تحمله الكلمة. بكل أشكاله، وأنواعه، بكل روائحه ونكهاته ! يا الله عليك يا راهب، غارق فى بحور الجمال. يا الله على تلك التوليفة النادرة، المتلألئة من الدرر التى شكلت شخصيتك، وصاغت تكوينك !
من أعزى؟ هل أعزى عائلتك الكريمة العزيزة؟ أم الملايين من قرائك فى أنحاء الوطن العربى والعالم كله الذى يقرأ أعمالك بلغات العالم العديدة التى ترجمت إليها ؟ أم أعزى نفسى على فقدان صديق كنت أهرع إليه فى لحظات الظمأ إلى القيمة والتوق إلى أحاديث الأدب والفن والجمال ؟
لا أستطيع إلا أن أقول وداعا يا صديق الفكر، الكلمة والقلم !