بعض المشاهير وكثيرين من أدعياء الثقافة والإعلاميين والفنانين لم يكونوا سوي طبول وزمارين،تلاعبوا بأفكار الناس وعقولهم وعملوا علي تشويش الوعي وبث الأكاذيب



علي مدي أكثر من عشرين عاماً، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت وكالة المخابرات الأمريكية CIA تنظم وتدير جبهة ثقافية وإعلامية عريضة في معركة ضارية بدعوي حرية التعبير، كونت شبكة محكمة من البشر الذين يعملون بالتوازي مع الوكالة بهدف زرع فكرة جديدة مؤداها أن العالم في حاجة إلي سلام أمريكي وإلي عصر تنوير جديد.مؤسسات وهمية وتمويل سري ضخم وحملة إقناع هائلة في حرب دعاية ضارية تخطط لها وتديرها «منظمة الحرية الثقافية Congress for Cultural Freedom» الأمريكية ضد اليسار والوطنيين في أنحاء العالم، هذه المنظمة كانت بمثابة وزارة غير رسمية للثقافة الأمريكية، أو لتكون « الزمار» الذي تدفع له الـ CIA ثمن ما يطلبه من «ألحان».وفي قمة ازدهارها، كان لـ «منظمة الحرية الثقافية» مكاتب في 35 دولة من بينها عدد من الدول العربية، خاصة لبنان والسعودية والأردن والمغرب وليبيا ومصر، حيث تم انشاء مكاتب فرعية لمؤسسات «روكفلر» و»كارنيجي» و»فرانكلين للطباعة والنشر» و»نادي القلم» و»مجلة المختار» وغيرها، ويعمل بها عشرات الموظفين، وتصدر أكثر من 20 مجلة ذات نفوذ، وتعقد مؤتمرات وندوات دولية تحضرها شخصيات بارزة، وتنظم زيارات، ومعارض فنون تشكيلية، حفلات موسيقية، وبرامج إعلامية وأفلاما، وتقدم منحا دراسية في جامعات ومؤسسات دولية للحصول علي درجات الزمالة العلمية والأدبية،وتكافئ الفنانين والموسيقيين بالجوائز، وترعي معارضهم وحفلاتهم، معتمدة علي شبكة واسعة وشديدة التأثير من رجال المخابرات وخبراء الاستراتيجية السياسية.أولئك «المثقفون والإعلاميون» بعد أن قبضوا الثمن، كان لابد من تجميعهم ودمجهم معاً في هذه المؤسسة نفسها مع وكالة المخابرات المركزية، وهو أمر قد يبدو غير قابل للتصديق. كانت هناك مصلحة مشتركة، وكان هناك تعاون وثيق بين الوكالة وأولئك الذين استؤجروا لكي يخوضوا الحرب الثقافية، حتي وإن لم يكن بعضهم يعرف ذلك.إن كتاب «الحرب الباردة الثقافية» عن دور المخابرات الأمريكية في عالم الفنون والآداب والإعلام جدير بالقراءة، لأنه يكشف ستر مواقف وتحولات في عالم الثقافة،كنا في مصر وبلدان العالم العربي، نراقبها دون أن ندري أسبابها.إنها القصة كاملة للدور الذي قامت به الـ CIA في الحرب الباردة الثقافية، الأمر الذي يجعل من هذا الكتاب عملاً مهماً من أعمال البحث التاريخي «..
ماتقدم نقلاً ببعض التصرف من مقدمة كتاب «من الذي دفع للزمار؟ الحرب الباردة الثقافية والمخابرات المركزية الأمريكية» للكاتبة الإنجليزية الشابة التي تتبعت القصة سنوات عديدة وقدمتها بالوثائق «فرانسيس ستونر سوندرز»، ترجمة طلعت الشايب، وتقديم د. عاصم الدسوقي، كما أصدره المجلس الأعلي للثقافة بالقاهرة يناير 2003. ولقد كان لبريطانيا وفرنسا دور كبير في تسويق وتجنيد وتنفيذ هذه المخططات، وليس خافياً أن بعض المشاهير وكثيرين من أدعياء الثقافة والإعلاميين والفنانين لم يكونوا سوي طبول وزمارين،تلاعبوا بأفكار الناس وعقولهم وعملوا علي تشويش الوعي وبث الأكاذيب وتزييف الحقائق وإشغال الأنظمة الوطنية الساعية للاستقلال والتحرر والتنمية بقضايا مفتعلة لإبعادهم عن عدالة توجهاتهم وقضاياهم، ومؤامرات القوي العظمي علي مصالح دولهم وشعوبهم وتشويه قياداتهم ورموزهم.شككوا الناس في كل شئ وخدعوا العالم لتحقيق أهداف خاصة للدول العظمي منذ عقد الخمسينيات حتي نهاية الثمانينيات من القرن الماض، وربما عادوا ليمارسوا نفس الدور في موجة جديدة وبأدوات مشابهة معتمدين علي نشطاء وإعلاميين ومثقفين وفضائيات من الدول المستهدفة في حرب قذرة وظفوا لها كل إمكانات الجيل الرابع من الحروب التي تشتعل أوارها في بلادنا وتستهدف منطقتنا بشراسة اتضحت معالمها مع هذه الفترة الحرجة والسنوات القليلة القلقة من عمر الوطن والثورة.
ولاشك أن بلادنا تتعرض لهجمة إعلامية شرسة تحاول بدأب أن تصنع الوعي الزائف وتؤسس للعقل البديل الذي يستلبه الإعلام المغرض والموجه المدعوم بقوي ومخططات وتمويل عابر للدول والقارات. ولقد كتبت لك في هذه الزواية عدداً من المقالات عن المتلاعبين بالعقول، ومحركي الدمي الكبار، ومن الذي دفع للزمار، وتعليب الوعي، والوعي الزائف والعقل البديل، ومنذ أن كتبت هذه المقالات قاطعتني معظم الجرائد الخاصة والفضائيات التي طالما احتفت بمقالاتي وأفكاري وروجت لها ونقلت عنها،وكنت ضيفاً عزيزاً عليها يلقي كل الترحيب والاهتمام قبل ذلك، مما أكد لي صحة ماذهبت إليه وخطورة ماكتبت عنه وفضحت أسراره. وأتذكر أن معظم الملاحق الدورية المغرضة التي كانت تطبع وتوزع مجاناً مع معظم الجرائد الخاصة ذات التمويل عابر القارات والتي جاءت علي غرار ماقالت عنه «سوندرز» في كتابها، توقفت بعد حملة مقالاتي التي هتكت ستر توجهاتها لخدمة مصالح دولية تواكبت مع حملة الولايات المتحدة الأمريكية علي نظام مبارك. لم يكن دفاعي عن النظام بقدر ماكان دفاعي عن استقلال وطني وحرية مواطنيه ووعي جماهيره، ولايمكن المزايدة عليَ في ذلك فقد كنت وقتها في خلاف واضح مع النظام وتوجهاته والجميع يعرف كيف أخرجوني من موقعي رئيساً للمدينة العلمية التكنولوجية في برج العرب عندما اختلفت مع وزير التعليم العالي والبحث العلمي ومع أحمد نظيف ورفضت دخول الإسرائيليين في أول منطقة استثمارية في العلوم والتكنولوجيا أسستها في إطار أول «ساينس بارك» مصرية في برج العرب شهد لها العالم حين كانت كل جامعاتنا خارج التصنيف الدولي. وبالمناسبة أطالع بالأمس تصريحات وزير البحث العلمي الحالي عن تأسيس هذا الذي أسسته من سنوات، وينسبه لوزارته في نشرات الأخبار الإثنين الماضي.
المعني أن ماأوردته عن الكتاب الخطير لـ «فرانسيس سوندرز» نري جميعاً صداه وملامحه في الإعلام المصري الذي يتلاعب بوعي الناس والشعب والدولة بما يبثه من تشكيك ومايقدمه من تفاهات وبرامج تحوطها الريبة وتستهدف بث الفرقة واصطناع معارك وهمية سواء بعبط أو بغرض، تبعد الجماهير عن التعبئة العامة خلف مشروعاتنا الوطنية وتوجهاتنا في الاستقلال والبناء والتنمية، وتدفع للإحباط. وإلا مامعني طرح موضوع تكريم حسني مبارك في هذا التوقيت الحرج،وما يمكن أن يخلفه من استقطاب حاد لشباب محبط يشعر سواء بحق أو بالباطل أن النظام الحالي ضد الثورة التي ضحي من أجلها، وأنه يمكن لرجال مبارك ويستعيد لهم مكاناً في صدارة المشهد، مما يزيد الهوة بين الدولة وجماهيرها، في الوقت الذي نطالب فيه اصطفاف الشعب وتماسكه خلف قيادته، ومامعني تحكم وكالات الدعاية والإعلان وإيهاب طلعت وشركاه بفرض خرائط المنوعات والمذيعات اللبنانيات ومناقشة موضوعات غرائبية مثل المتحولات جنسياً والمتخصصات في خطف الأزواج والعري والدعارة والرقص والجن والعفاريت ومسلسلات البلطجة والمخدرات والترويج لقيم مجتمعية بديلة تسخر من ثوابتنا الوطنية وتحط من قيم الشرف والالتزام والعمل، وبرامج المنوعات ومسابقات التفاهة والعبط، مع استبعاد البرامج الجادة والهادفة لخلق الوعي وتنوير العقول والتوعية الثقافية والسياسية وخلق منظومة معرفية لشعب يفتقد في نخبته أبسط قواعد «اللياقة السياسية» والمسئولية.
ياسادة نحن أمام حرب إعلامية معلنة، ومهزلة آن لها أن تتوقف من فضائيات تدعي دعمها للدولة بينما تمد أصابعها لتلعب في عقول الناس وتشتت بصرهم وبصيرتهم وتخزق عين الوطن.