من يقول بأن ما تحقق في قناة السويس هو معجزة بذاته، تظل رؤيته قاصرة، فمصر قادرة علي تغيير خرائط العالم الجيواستراتيجية



لا يستطيع أحد ركوب ظهرك الا إذا انحنيت له، هكذا قالت الحكمة، وهكذا تثبت الأيام صحة ماذهبنا إليه بإقدام وتصميم وعمل، إقدام تسبقه رؤية، وتصميم يؤيده تخطيط، وعمل يأخذ بأسباب النجاح ومنهج العلم.كان هذا أول ما تبادر إلي مخيلتي وأنا أتابع في المؤتمر الصحفي لوزير خارجيتنا مع جون كيري علي هامش الحوار الاستراتيجي المصري الأمريكي، حيث تغيرت اللغة وتغيرت معها زاوية التناول وتبوأت الندية مكانها الصحيح في علاقاتنا مع الولايات المتحدة الأمريكية، فبدا وزير الخارجية الأمريكية أكثر موضوعية وتواضع، يتلمس الكلمات قبل نطقها حتي لا تبدو كما اعتدنا مدببة موجعة. وكان الحرص الأمريكي علي خلق مساحات من التفاهم أكبر مما كان حرصهم في السابق علي الإملاء والاستعلاء والتكبر، ذلك أن مصر كانت قادرة علي تغيير معادلات السياسة في علاقاتها الدولية، فلعبت أوراقها بذكاء واقتدار، ما أهلها لتبوؤ مكانها ودورها قوة فاعلة في إقليمها والعالم. وإذا مانظرت بانصاف وتجرد أين كنا صبيحة 30 يونيو وأين أصبحنا في غضون عام واحد، لرصدت تغيراً نوعياً فارقاً فيما وصلنا إليه، وأصبحنا أمام مصر تختلف كلية اليوم عما كانت عليه، حين علقت عضويتنا في الإتحاد الإفريقي، وحين صنفت القوي الدولية في الغرب ثورتنا الثانية في عداد الإنقلاب العسكري، كنا مهددين بالعقوبات الدولية وكان تدخل الإتحاد الأوروبي في شأننا الداخلي محبطا، وأوقفت الولايات المتحدة الأمريكية معونتها العسكرية، وعلقت تسليمنا طائرات الأباتشي والـ ١٦٪ وقامت ضدنا حملة عالمية تبنت وجهة نظر التنظيم الدولي للإخوان الظالمة المخاتلة، وتألبت علينا الدنيا بغرض تركيع مصر وتقليم أظافرها لتعود صاغرة لبيت الطاعة الأمريكي الذي استكانت فيه أربعة عقود وأكثر منذ أعلن السادات أن 99% من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ رهن مبارك قرارنا الوطني لمشيئة اليانكي وإملاءاته. وسمحت ظروفنا الطارئة لكل مغامر من الغرب والقوي الإقليمية ليدس إصبعه في الشأن المصري الملتهب، وتجرأت علينا حتي دول صغيرة لا وجود لها إلا علي اللائحة الأمريكية، وبدت حكوماتنا المرتعشة لا حول لها ولا قوة أمام لجان التفتيش الأوروبية وكاترين آشتون وتنفذ الطابور الخامس حول الرئيس المؤقت عدلي منصور الذين حاولوا التلاعب بمقدرات الوطن لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وصولاً إلي استقالة البرادعي بعد الإدانة الأمريكية لفض مستعمرة رابعة الإرهابية التي تسببت حكومة حازم الببلاوي الضعيفة في تضخمها، إلي أن جاءت الإنتخابات الرئاسية بالرئيس عبدالفتاح السيسي الذي عاجل العالم برؤية وطنية مغايرة واستقلال للقرار الوطني يحركه عقل استراتيجي ويدعمه إجماع شعبي غير مسبوق، لعب أوراقه الدولية باقتدار وتمكن، فتح الطريق مرة أخري مع إفريقيا والعالم العربي والمبادرات السعودية والدعم الإماراتي الكويتي، وبذل جهداً دبلوماسياً نشطاً فتح جسوراً جديدة مع أوروبا في إيطاليا وفرنسا واليونان وقبرص، ثم ألمانيا، وذهب إلي الأمم المتحدة يخاطب ضمير العالم ويعرض رؤية مصر وتوجهاتها الجديدة، ثم اتجه شرقاً نحو روسيا والصين، في مبادرة مباغته لتنويع مصادر السلاح وعقد شراكات استراتيجية جديدة طوقت كل المحاولات الأمريكية الغربية لمحاصرة مصر وتحجيمها. وقدمنا لعالمنا العربي رؤية طموح لنظام عربي متماسك، نظام قادر علي الإمساك بأهدافه والحفاظ علي حدوده واستقلاله بقواه وقدراته، نظام فاعل بذاته لا معتمداً علي غيره ممن يحاولون تقسيمه وإعادة رسم خرائطه تبعاً لمصالحهم وأهوائهم، وضد مصالحنا وآمال شعوبنا. ولم يستسلم الغرب وحاول كل ألاعيبه للوقيعة بين مصر والسعودية، وكاد ينجح بعد وفاة الملك عبدالله رحمه الله، ولم تستسلم مصر أيضاً، وجاء تتويج جهدها الدءوب ورؤيتها الصائبة في إعلان القاهرة مع زيارة ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يمثل جيلاً جديداً من القيادات السعودية المؤهلة والعارفة لدور مصر وقدراتها، والدارسة لحركة العالم وسياساته وتوازناته وتحدياته، ليعيد الدفة إلي وجهتها الصحيحة ويضيف زخماً جديداً للعلاقات المصرية السعودية باعتبارها رافعة العمل العربي المشترك وضمانة أمنه القومي المهدد.



في ذلك كله كان لدينا عقل استراتيجي واعي يحمل الهم المصري، يعمل للخروج من عنق الزجاجة والحصار الضيق بالتنمية وإعادة الهيكلة لإقتصاد متعثر ضعيف، وإضافة قدرات جديدة لقواتنا المسلحة واستنهاض الداخل المصري في مشروعات عملاقة. وتحملنا عن العالم كله عبء محاربة الإرهاب في إصرار وعزيمة لا تلين، وواجهنا مؤامرات الداخل والخارج بكل ثبات وإرادة لاتنكسر. كان عاماً من الجهد والعمل الدؤوب علي أسس علمية محكمة، لم تغب فيه عنا لحظة واحدة أهدافنا في تثبيت دعائم الدولة وحمايتها من السقوط والتفكك. وأحسب أنه عام سيتوقف أمامه تاريخنا بالشهادة والتقدير والإحترام، عام أجبرنا فيه الفرقاء الدوليين جميعاً أن يمعنوا السمع لصوت مصر الذي جاء هادئاً واضحاً ومصراً علي تحقيق كل ما يعلن وما يفعل وما يقول. وجرت في النهر مياه كثيرة، ولم يخلُ الأمر من هنات هنا وإحباط هناك، لكننا كنا أبطالاً، فالبطولة لا تصنع فقط في ساحات المعارك العسكرية وحدها أو صالات التدريب، إنما تصنع قبل ذلك في مخيلة الناس وذواتهم وأحلامهم الكبري وإرادتهم الصلبة وجهدهم العفي وعملهم العلمي المدروس. وهكذا تفتق عقلنا الاستراتيجي عن مشروعات وطنية عملاقة تحشد الناس وتوقظ الهمم، ومن أموالنا وبأيد عمالنا أنجزنا مشروعنا العملاق في قناة السويس، في توقيته ومواصفاته العالمية العلمية السليمة، وأصلحنا الكهرباء وقضينا علي مشكلة مزمنة، وشققنا طرقاً جديدة وقضينا علي طوابير الخبر وأنابيب البوتاجاز، وحاربنا الإرهاب ووجهنا له ضربات موجعة، وحمينا حدودنا، وقدمنا المثل علي دولة ناهضة طموح رغم صعوبة الظروف وشراسة المواجهة. إعتمدنا تخطيط المبادرة لا رد الفعل كما كنا نفعل. جاء ذلك كله بفضل عقل استراتيجي يقظ في مؤسسة الرئاسة وقواتنا المسلحة التي تحملت العبء الأكبر في طموحنا للبناء والتأسيس والتنمية. كان أملنا ولا يزال أن يتحول هذا العقل الاستراتيجي إلي عقل مؤسسي يحكم كل أنشطة الدولة ومؤسساتها، ذلك أن نجاحنا المشهود في كل ما استعرضناه معاً نحتاج لنقله إلي الداخل المصري الذي يحتاج منا عملاً علمياً منظماً يتصدي لمشكلات استراتيجية وبنيوية تواجهنا تحدياتها في موضوع سد النهضة، والتأسيس لدولة ديمقراطية حديثة، وإعادة هيكلة منظومة التعليم والبحث العلمي ودفع قواعد الإنتاج ومشروعات التنمية والسياحة، والسيطرة علي شطحات وجنون السوق والإقتصاد، وتحقيق العدالة الإجتماعية، وضبط إيقاع السياسة والأحزاب، وتجديد الخطاب العام كله وليس الخطاب الديني وحده، ومحاربة الفساد، وتنشيط وحوكمة المحليات، وضبط الإيقاع العام في الإعلام الذي بدا متسيباً متحللاً من أي رؤية وإلتزام، وتفعيل قواعدنا الشابة واحتضان أشواقها وآمالها في التحقق بالثورة وأهدافها.
إن من يقول بأن ما تحقق في قناة السويس هو معجزة بذاته، تظل رؤيته قاصرة، فمصر قادرة علي تغيير خرائط العالم الجيواستراتيجية إذا ما جاء السابع من أغسطس إيذاناً بتغيير شامل، تغيير يستنسخ عقلنا الاستراتيجي الفاعل في مؤسسة الرئاسة وجيشنا الوطني، إلي عقل مؤسسي للدولة، وهذا يحتاج رجالاً أولي عزم وقوة، رجال يخافون الله ويحبون الوطن، يتسلحون بالعلم والكفاءة والقدرة والمعرفة. نعم نستطيع، وهذه هي الشروط.