صارت السياسة تشكيكاً وتخبطاً أحبط الناس، ونال من معنوياتهم شيوع فرايا ومقولات النخب والفاعلين السياسيين بأن مصر في النازل




السياسة كعلم له قواعده ومناهجه ومجالاته، أما السياسة في بلادنا فقد استحالت سيركاً صبغت ممارساته بقدر كبير من الارتجال والعشوائية والنزق، أبعدها عن كل مسئولية والتزام أمام ماتمر به بلادنا من ظرف تكالب فيه علينا إرهاب الداخل وترصد الخارج، واختلطت فيه الأوراق، فصارت السياسة تشكيكاً وتخبطاً أحبط الناس، ونال من معنوياتهم شيوع فرايا ومقولات النخب والفاعلين السياسيين بأن مصر في النازل وأننا في حالة ثورة مضادة، مع تكرار أحياناً بسوء نية، ومرات بغباء وقصر نظر لما يروج له طابور خامس أومغيبون ومغرضون تتماهي مواقفهم مع التنظيم الدولي للإخوان وداعميهم من تنظيمات الإرهاب والقوي الكبري التي تترصد مصر. وهي ظواهر تحتاج التوقف حيالها بالدرس والتحليل والمراجعة، وهي مخالفة لواقع الحال، فنحن ورغم كل مشكلاتنا هناك مايبشر بقدرتنا علي الإنجاز والبناء والخروج من حال الحصار.
ياسادة لاتظلموا هذا الوطن، ولاتصادروا علي المستقبل خصوصاً ونحن أمام بعض بشائره ومقدماته وما تحقق من معجزة في قناة السويس لهو مؤشر علي إرادة سياسية للشعب والقيادة بالقدرة علي العمل والإنجاز وإعمال منهج العلم. ياسادة مصر تنهض من جديد، وليس في هذا مجاملة للسيسي، فلست من حوارييه ولادراويشه، ولا كنت مدعواً علي موائده واجتماعاته، إنما هي شهادة حق لصالح وطن يعمل ويجتهد، عندنا مشكلات وهناك أخطاء لاننكرها، لكن لانترك لها العنان لتقطع علينا طريق الأمل والعمل والتفاؤل. وهنا ينشأ السؤال: لماذا تتصرف النخب السياسية والإعلامية علي هذا النحو؟ وللإجابة أحيلك إلي مقال سابق بعنوان: «إنتروبيا الاجتماع والسياسة» لنحتكم في رؤيتنا إلي منظور العلم ومنهجه وقواعده وقانونه، وأنقل لك بعضاً مما جاء فيه: «إن أسئلة الوجود حولك كثيرة وقديمة وأبدية وأنت لا يمكنك أن تلوم الظروف والأيام والأحداث والسياسة والحكومة دون أن ترفع إصبع الاتهام نحو ذاتك وتواكلك وقعودك. إن الطبيعة حولك كتاب مفتوح وهو نادراً ما يستهويك للتصفح والتدبر والتفكير. ولقد تعودنا جميعاً أن نمر علي ظواهر الكون والأشياء فلا نعبأ بها ولا نتفكر كيف لهذا العالم المادي حولنا أن يستمر ويعمل ويتجدد. نحن نري الأشياء لا بعيوننا وعقولنا وإنما بصور ذهنية كوناها بحكم العادة والتكرار فأصبحنا من خبراتنا وتجاربنا نعلم أنه يمكن لورق الشجر والخشب والفحم والزيت أن يشتعل في الهواء بينما ذلك لا يحدث مع حبات الرمال أو مكعبات الثلج. واعتدنا أن نري أمواج البحر في مد وجزر بينما هذا لا يحدث في النهر، ورأينا عشرات المرات كيف تفتت الجسم الصلب للسفينة تايتانيك عند اصطدامها بجبل الثلج وإذا بها تغرق، ولم نتساءل ولماذا لم يحدث العكس بأن تلتئم أجزاء الجسم الصلب تحت المياه فتطفو السفينة وتعوم من جديد. ألم تسأل نفسك مرة لماذا مكتوب علي كل الكائنات الحية أن تموت يوماً ما؟ ولماذا تسقط التفاحة من الشجرة ولا يحدث العكس.إنها قوانين الحياة والطبيعة يا عزيزي وأنت تشاهدها آلاف المرات دون أن تقترب من معانيها ودلالاتها. هناك من قوانين الطبيعة ما هو محتوم علينا طاعته حتي يمكننا أن نعيش، ومنها ما يتحتم علينا مقاومته حتي تستمر بنا الحياة.
وعليك أن تعرف أنه ليس هناك واحدة من المتراكبات الكيميائية في أجسادنا أو الداخلة في تكوين الأشياء التي نحبها ونألفها حولنا، يمكنها أن تبقي وأن تستمر حتي ولو جزءا من الثانية ما لم يمكنها مقاومة القانون الثاني للديناميكا الحرارية وإعاقة قابليته ورغبته في التحقق والحدوث.القانون الثاني للديناميكا الحرارية « الثرمو ديناميكس» هو سر الأسرار الذي اكتشفه العلماء وقننوا له في منتصف القرن التاسع عشر، منهم كلفن وجول وكارنوت وغيرهم. إنه القانون الذي يفسر معظم هذه الظواهر، ليس هذا فحسب وإنما يمكنه أيضاً أن يفسر مفاهيم استقرت في وجدان الناس وأذهانهم عن الاجتماع والإصلاح والسياسة أيضاً.
القانون الثاني ليس مجرد فكرة علمية غريبة وإنما هو معني بتفسير كثير من الأحداث والأفعال والظواهر وكل ما يحدث وتقع عليه عيوننا وأبصارنا، وربما لاتدركه بصائرنا وأفهامنا. فإذا كان القانون الأول للديناميكا الحرارية هو قانون بقاء الطاقة، ذلك أن «الطاقة لا تفني ولا تستحدث من عدم، وهي يمكنها أن تتحول من صورة إلي أخري»، وأنت تري ذلك كل يوم إذ يحول دينامو سيارتك طاقة الحركة إلي كهرباء بينما يحول الموتور حرارة الاحتراق داخله إلي حركة، وهكذا.. أما القانون الثاني فهو يشير إلي أن «الطاقة تميل تلقائياً لتنساب من حيث هي مركزة إلي أن تنتشر وتتسرب وتتوزع في كل الأنحاء التي يمكنها الوصول إليها»، وربما أدي ذلك إلي خلل في نظام الطاقة وقلة مردودها. وبعيداً عن تعقيدات المعادلات الرياضية والفيزيائية يمكننا أن نشير إلي أن ذلك القانون هو ما يسمح بمزيد من الفوضي المقننة في فاقد الطاقة والذي يسمي معامل «الانتروبيا» وبمعني بسيط إذا كانت طاقة أي نظام فيزيائي أوهندسي أوحتي بيولوجي هي HΔ فإن جزءاً من هذه الطاقة GΔ هو وحده القادر علي إحداث تغيير أوتأثير أوشغل أو تفاعل، والجزء الآخر SΔ هو الذي ينتشر تلقائياً ولا تري له مردوداً مباشراً، إنه معامل التسرب وهو مقياس الخلل في ذلك النظام،إنه معامل الانتروبيا،وإذا ما زاد تحول النظام إلي فعل عشوائي أوفوضي، تخصم من الطاقة الفاعلة في النظام والخلية وحتي في المجتمع والسياسة. من هنا يأتي الخوف من المتغيرات المناخية والاحتباس الحراري، لأن في ذلك مؤشرا علي زيادة الانتروبيا وارتفاع معدلات العشوائية وربما نهاية الحياة.
وهكذا يتضح لنا بالعلم أن المتغيرات التلقائية والمتعجلة وغير المدروسة دائماً ما تكون مصحوبة بزيادة الانتروبيا والتي هي تعبير عن الخلل في أي نظام فيزيائي أوكيميائي أو بيولوجي أوحتي اجتماعي وسياسي. يزداد معامل الانتروبيا أيضاً بزيادة حرارة التفاعلات وهذا ما نشاهده ونرصده في حياتنا السياسية والحزبية والشأن العام، حيث تتحول الانتروبيا إلي حالة وظيفية قائمة بذاتها لإهدار طاقات المجتمع وقواه الفاعلة في القيل والقال وافتراضات وتوقعات وتأويلات وتسريبات، وكلها لا يمكن أن تشكل قوة دافعة للنهوض أوالتحديث، بل تشكل معوقاً للإصلاح والتطوير والنهضة. إن ارتجال السياسة وعشوائية المطروح في المجتمع من نميمة وشائعات وافتعال معارك مع طواحين الهواء كما فعل «دون كيهوته دي لامانشا» في رائعة سرفانتيس «دون كيشوت» كلها طاقة مهدرة لا مردود لها وهي تفريغ لقوي كان يمكن أن تكون دافعة للتقدم والتنمية،فتستحيل مع هذه المعطيات السياسية الهزيلة والهزلية إلي إنتروبيا إن لم تؤخر وتخصم فهي لن تقدم أو تضيف.
إن طاقات المجتمع السياسية وأحزابها التي تركز علي الشكل أكثر من تركيزها علي المضمون وتفارق منطق العلم والتفكير السليم، ما هي إلا تكبير لمعاملات الانتروبيا علي حساب طاقات الانتاج والتفاعل البناء والشغل والإصلاح والتقدم،وهكذا يفسر لنا العلم خطورة إنتروبيا الأحزاب والاجتماع والسياسة.