إن كل ما مر بالبشرية من حروب ومعارك كانت جميعا تنويعات علي تيمة واحدة هي قناعة الفرقاء كلٍ دون الآخر بأنه وحده الذي يحتكر الحقيقة

لاشك أننا أمام عالم مريض بظواهره وإبداعه، وهو عالم يتشكك في ذاته ويفتقد اليقين، ويعيد تشكيل قواه الفاعلة وترسيم خرائطه بالنار والدم، وأينما وجهت نظرك فثمة خراب وتدمير وتآمر وتواطؤ وإرهاب، هذا حال العالم ينعكس بالضرورة علي محيطنا السياسي العام وتنعكس آثاره في التباس الرؤي ومجافاة حقائق الأمور وخلط الأوراق وتدني مستوي الأداء العام مابين الحكومة والقوي السياسية، دون تقدير لظرف خاص يمر به الوطن في حرب يتسعر أوارها ويبدو الجميع غير مبال وغير متحسب. ولقد سبق أن كتبت هنا في ذلك مقالاً بعنوان «السياسة لاتتعلم من التاريخ»، أقتبس لك منه الفقرات التالية:- «تجلت حكمة التاريخ وتجربته وربما معاناته عبر عقود طويلة من نضالات الناس وعذاباتهم في الحروب الميدانية، والحرب الباردة وحركات التحرر الوطني وحروب العولمة الظالمة. لكننا أبداً لا نتعلم من التاريخ أو نتأسي بحكمته وخبراته.
إن كل ما مر بالبشرية من حروب ومعارك كانت جميعا تنويعات علي تيمة واحدة هي قناعة الفرقاء كلٍ دون الآخر بأنه وحده الذي يحتكر الحقيقة وله وحده كل الحق في تقرير المصير والمصلحة والمفروض والواجب، وهنا يبدأ الصراع وهو يأخذ في كل مرة سمتا جديدا وأشكالاً مغايرة، فيها أبعاد الثقافة والسياسة والاقتصاد وربما السلاح أيضا. يتحول الصراع من غايات وآمال وطموحات إلي أفكار وبرامج وممارسات ثم يتحول إلي معارك وتعقيدات ومواجهات، ذلك أن ما يريده طرف في معادلة الصراع لايرضاه الطرف الآخر أو يقبله، لتبدأ شواهد صراع الإرادة ثم صراع الإدارة ليتحول التاريخ إلي إدارة الصراع.
علي أن أخطر ما واجه الإنسانية عبر مسيرتها هو تحول الصراع إلي قانون حاكم مؤداه البقاء للأقوي. إنها «الداروينية الاجتماعية» كما رآها الفيلسوف الإنجليزي «هربرت سبنسر» الذي جذبته العلوم التجريبية وأثرت فيه نظرية دارون للنشوء والارتقاء والتطور أونظرية الانتخاب الطبيعي والبقاء للأقوي. تلك النظرية التي علي أساسها قامت صيحات الليبرالية الجديدة «ريجان- تاتشر في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي» ومارست النخب الرأسمالية وصايتها علي الطبقات الفقيرة بزعم أن الإنسان نتاج الوراثة والبيئة، وأن الفروق في حظوظ الناس من الطبقة والثروة والسلطة هو بفعل قوانين الطبيعة التي لا يمكن تغييرها، أي يظل الفقر مسئولية الفقراء لا الدولة، وهنا تتجلي انتهازية السياسة في تطويع العلم لأغراضها، بينما هي تمارس البلادة ولا تتعلم من التاريخ.
هي إذن محاولة جديدة للاحتكار، تبدأ باحتكار الفكرة لتنتهي باحتكار السياسية والسلطة والثروة والوطن، بما يفتح الباب واسعاً أمام أسباب الصراع داخل الدول، وسواء كانت أسبابه ثورة ضد توحش الرأسمالية والامتيازات الطبقية أوالفاشية الدينية، أولإحداث تحولات سياسية واجتماعية لصالح أغلبية معدمة وفئات مهضومة، إلا أن ذلك كله ورغم نبل مقاصده لم يخل من تحكم ذهنية نفي الآخر واستبعاده، أو في أرحم التصورات استئناسه وتدجينه وقهر طموحاته. وهنا تحتقن ثنائية الأغلبية والأقلية أوالحكومة والمعارضة.
علي أن أخطر ماجرته ممارسات السياسة محدودة الأفق هو «حالة التوحد» أو مرض «الأوتيزم»، حيث تنفصل الأغلبية عن المجتمع وتتوحد مع ذاتها، فلاتسمع إلا نفسها ولاتري إلا تصوراتها، ولا تستجيب لمطالب القوي السياسية والأحزاب ولا تعبأ بنداءاتها وإلحاحها. هذه هي حالة الأوتيزم السياسية التي نحذر من الانزلاق اليها والوقوع في غياباتها. شيء من هذا يحدث الآن وعلي مرمي البصر منا في ممارسات السياسة اليومية بين الحكومة والفاعلين السياسيين والرأي العام، تمارس الدولة حالة التوحد أوالأوتيزم، ويلعب نشطاء المعارضة دور «السيكلوب» أوالوحش الخرافي ذو العين الواحدة كما في إلياذة هوميروس وملحمة جلجامش، فلا تري في الحكومة ومؤسسات الدولة إلا خصما ينبغي الإجهاز عليه، ولاتري في أعمالهم إلا الفشل والاستبداد والتسلط. إنها عذابات السيكلوب وعينه الواحدة التي تحتم عليه منظوراً واحداً للرؤية تختلط فيها الأقاويل بالأوهام والخرافة.
أن تتصرف القوي السياسية لدينا بمثل ما هي عليه الآن رغم مبرراتها أحياناً، دون اعتبار لظروف الوطن الطارئة والداهمة، فذلك من باب الحمق والغفلة، والذي قال فيه الشيخ جمال الدين بن عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في كتابه «أخبار الحمقي والمغفلين»: «إذا بلغك أن غنيا افتقر فصدق، وإذ بلغك أن حياً مات فصدق، وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلا فلاتصدق». علي أنني أختلف مع ابن الجوزي ومشايعيه، حيث أري أن حماقة المعارضة وسيكلوبيتها هي مقابل لـ «أوتيزم الدولة» وعدم استجابتها. كيف؟ للإجابة أحيلك إلي الشيخ أبي علي التنوخي في كتابه «المستجاد من فعلات الأجياد» حيث قال: كان لعبد الله بن الزبير أرض مجاورة لأرض معاوية بن أبي سفيان، قد جعل فيها عبيداً من الزنوج يعمرونها. فدخلوا علي أرض عبد الله. فكتب إلي معاوية : أما بعد يا معاوية، فامنع عبدانك من الدخول في أرضي وإلا كان لي ولك شأن. فلما تسلم معاوية الكتاب - وكان إذ ذاك أمير المؤمنين - قرأه علي ابنه يزيد، ثم سأله: يا بُنيّ، ما تري ؟ قال: أري أن ترسل إليه جيشاً أوله عنده وآخره عندك، يأتوك برأسه. قال: أوَخَيْر من ذلك يا بنيّ ؟ (ماعندكش أحسن من كده)، عليّ بدواة وقرطاس. وكتب : وقفتُ علي كتاب ابن حواريّ رسول الله، أي تسلمته، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها عندي هّينة في جنب رضاه. وقد كتبتُ له علي نفسي صكاً بالأرض والعبدان، وأشهدتُ عليً فيه، فلسيتضفها، أي يأخذها، مع عبدانه إلي أرضه وعبيده. والسلام. فلما قرأ عبد الله كتاب معاوية كتب إليه: وقفتُ علي كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، فلا عدم الرأي الذي أحلّه من قريش هذا المحل (أي جعله أميراً للمؤمنين). والسلام. فلما تسلم معاوية كتاب عبد الله، رماه إلي ابنه يزيد، وقال له : يا بنيّ، إذا بُليت بمثل هذا الداء، فداوه بمثل هذا الدواء. هكذا فعل داهية السياسة معاوية بن أبي سفيان مع واحد من كبار معارضيه، فإذا به يتحول من الغلظة والتطاول إلي اللين وحسن الأدب. لماذا لا نتأسي بالسلف ونعقل التاريخ ونستلهم التراث؟ شئ من هذا فعله السيسي في أزمة المحامين والشرطة واعتذر لهم ولكل المصريين احتواءً للصراع وتجنباً لما يمكن أن يسببه من صدع، بينما الآخرون بمن فيهم الحكومة لم يستوعبوا الدرس.
لتقل القوي السياسية ماتشاء، غاية ما نرجوه منها موضوعية البيان ويقظة الفرسان والتحسب لمقتضيات الصالح العام، عدا هذا فلها ماتشاء من نقد ورأي واختلاف واشتباك الأفكار والسياسات لا تشابك الأيدي وشق الجيوب واعتبار النظام كله ثورة مضادة وتأثيم كل أفعاله بما يكرس لاستقطاب السياسة في بلادنا وجمود ذهنيتها عن المبادرة والتعلم من التاريخ».
إن الظرف العام يحتم علي الفرقاء جميعاً البحث عن قواسم مشتركة، ولعل المبادرة تأتي من جانب الدولة بعد افتتاح القناة لتعيد صياغة المحيط العام بما يحقق اعتدال السياسة وانفتاح الأفق نحو نظام جديد يعلن عن رجاله وأفكاره وسياساته، ويخرج بنا من أوتيزم الدولة وسيكلوب المعارضة.