في اليونان رأيت حلاً جذرياً للمشكلة التي حيرت البشرية قروناً طويلة. كيف يمكن الجمع بين العدل الاجتماعي وديمقراطية الحكم؟

ما الذي يمكن أن يجمع بين طهران وأثينا حتي أقرر الكتابة عنهما معاً؟ لا تحتاج الإجابة إلي تفكير طويل ولا إبحار في عوالم السياسة. فما قامت به إيران بعد ماراثون المفاوضات الطويلة مع الغرب. كانت دولة وحيدة أمام مجموعة من الدول أطلقت علي نفسها 5 + 1، أي أنها كانت في مواجهة 6 دول من تلك الدول التي نقول عنها في لغتنا اليومية من القوي العظمي. أقول إن ما قامت به إيران يعتبر بطولة بكل المقاييس. ودعك من محاولة وضع الرءوس في الرمال.
كان لي إعجاب قديم بثورة الخوميني ضد شاه إيران. وعودته من باريس. وقدرته علي تجسيد آمال أمة. وخلع حكم كان المستحيل التفكير في أن يقول له الإنسان: لا. ولم يكن خلع الشاه مجرد تغيير لحاكم. ولكنه كان كلمة لا مبكرة جداً تقولها إيران للغرب الذي وقف وراء الشاه واعتبر أن دعمه للشاه كأنه دعم لنفسه. ثم جاءت اللطمة من الشعب الإيراني البطل عندما خرج الشاه ذليلاً يبحث عن منفي.
لكني لم أسترح بعد تطورات كثيرة في إيران لما تقوم به في الوطن العربي. وهو ليس خافياً علي أحد. ثمة مشروع إيراني يعبر عن نفسه بوضوح كامل في العراق وسوريا وبيروت واليمن. ويهدد الأمن القومي العربي. لكني أدركت بعد تفكير طويل أن النجاح الإيراني ليس ميزة تحسب للإيرانيين. بقدر ما هي خيبة علينا نحن العرب أن نتحمل مسئوليتها كاملة. ولأننا نهرب دائماً وأبداً من تحمل المسئولية. فسيظل الأمر معلقاً نواجهه بالهروب. وليس أكثر من هذا.
تخيلوا معي الصورة المنشورة لوزراء خارجية دول العالم الكبري. ثلاثة علي اليمين وثلاثة علي اليسار يتوسطهم محمد جواد ظريف. وزير خارجية إيران. ورغم أن الصورة ليست كبيرة. فقد كان واضحاً وسطهم بذقنه البيضاء. وعدم وجود ربطة عنق في صدره. وأثناء الجلوس إلي منضدة المفاوضات في جلسات طويلة نشرت الصور لنري منها أن جواد ظريف قد جلس في مواجهتهم جميعاً. هو يمثل كفة. وهم يمثلون الكفة الأخري بندية مطلقة. ثم توصل إلي الاتفاق الذي خرج الإيرانيون إلي شوارع مدنهم يحتفلون وكأنهم انتصروا علي الدنيا بكل من فيها وما فيها.
اليونان حكاية أخري. وإن كانت تصب في نفس النهر الكبير. فاليونان يحكمها اليسار. يقولون في الغرب إن الشيوعيين هم من يحكمون اليونان. ومع هذا اضطروا للتفاوض معهم. وقد مرت اليونان بأزمة ضخمة. ذكرتني بمحنة مصر في أواخر حكم الخديو إسماعيل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. عندما تكاثرت الديون. وتاه الطريق للقدرة علي سدادها. وكان أن هُزِمَ المشروع المصري وانتهي الأمر بالاحتلال الإنجليزي لمصر الذي استمر 72 عاماً.
في اليونان رأيت حلاً جذرياً للمشكلة التي حيرت البشرية قروناً طويلة. كيف يمكن الجمع بين العدل الاجتماعي وديمقراطية الحكم؟ كيف يمكن لحكم بلد صغير مثل اليونان يستند لحضارة قديمة عرفت منه البشرية الأساطير والدراما وصراع الأقدار والقدرة علي أن يقول الإنسان: لا. لكل من هو أكبر منه؟.
كل قرار كانت تتوصل إليه الحكومة اليونانية مع الغرب في مفاوضات طويلة لا نهاية لها. كان يتم اللجوء للشعب اليوناني في استفتاء علني من أجل معرفة رأيه فيما يقومون به. هل هو موافق؟ هل يرفض؟ هل له تحفظات؟ هل يرغب في تعديلات؟ وهكذا حلت اليونان مشكلة البشرية الكبري حرية رغيف الخبز عندما تتعانق مع حرية تذكرة الانتخاب. وقبل كل هذا وبعده أن تقول اليونان: لا للغرب. في وقت يتصور فيه الغرب أنه آن له أن يقود البشرية كيفما شاء. وفي الطريق الذي يشاء. وبالشكل الذي يرغب فيه. بمعني أن يسير ويسير الكل وراءه. لا يملك أحد أن يعترض أو أن يقول: لا.
الشهر الأخير حمل لا. مرتين في وجه توحش الرأسمالية الغربية. التي تريد أن تقود الدنيا بإدارة التوحش. وليس بإدارة المصالح والأهداف والغايات. المرة الأولي كانت من إيران. والمرة الثانية كانت من اليونان. قالتا لا دون النظر لحسابات الربح والخسارة. وما دامت الكلمة كانت مطلقة بعيداً عن الحسابات اليومية. فقد انتصرت اليونان وانتصر إيران. وعلينا نحن هنا في مصر أن ندرس التجربتين وأن نحاول الاستفادة منهما. فالخصم الذي حاول أن يلوي عنق اليونان ثم إن يطوع إيران هو نفس الخصم الذي ينصر خصومنا علينا. وهو نفس الخصم الذي يقدم الدعم لأعداء الحياة وأعداء الدنيا. ونحن لا نفعل مع الخصم سوي محاورته. مع أنه لا بد من الوصول لطريقة أخري في التعامل معه.