كأن نعتبر، مثلا، «محمود المليجي» كنموذج للشرير في السينما، مسيئا للأخلاق العامة، وأن نمنع من العرض فيلما مثل: «بداية ونهاية»

سألتني  إحدي صديقاتي، ممن ابتلاهن الله بابن مدمن، غاضبة من مسلسل «تحت السيطرة»: «مفيش أي أمل يعني، حنفضل عايشين في رعب طول العمر؟!» ربما يكون هذا السؤال هو الأكثربساطة وصدقا وسط الهجوم الطاغي علي المسلسل، خاصة بعد أن أبدي رئيس الجمهورية استياءه من الرسالة الأخلاقية التي تبثها مسلسلات رمضان، فتلقفها البعض كإشارة البدء للهجوم العنيف، وممارسة ما لا أري أنه يتفق كثيرا مع الرؤية الأخلاقية، حين تنبري الأقلام للتزلف لرئيس الجمهورية، بالرغم من أنهم طالما صدعوا رءوسنا بحديثهم عن «النقد البناء»! لم يفكر المهاجمون أن الزمان لا يجود كثيرا بأعمال فنية مثيرة للجدل، وأن الواجب «الأخلاقي» للنقد، يحتم علي الناقد ألا يختزل العمل الفني في حدود رسائله «الأخلاقية» المباشرة، وإنما يجتهد لفهم عناصره الفنية نفسها، ومدي توافقها، ورسالته «الإنسانية»، التي لا تقتصر علي الأخلاق الواجب اتباعها، وتتطفل بمثاليتها،عادة، علي الفن. ولا يعني كلامي هذا أن الفن عليه أن يقوم بدور»لا أخلاقي»، لكننا سنختلف علي معني الأخلاق التي يقدمها الفن وطبيعتها. ولا يعني أيضا أنني أدافع هنا عن مسلسل، أري من وجهة نظري، أن به أخطاء فنية سأتحدث عنها لاحقا، من داخل «الدراما» لا من خارجها، لكنني مضطرة الآن للرد علي المزاعم الأخلاقية، وهذا يعيدني إلي سؤال صديقتي وهي تخوض المحنة: «يعني مفيش أمل؟!»، وهو ما لم يقله المسلسل تماما؛ هناك أمل، لكنه ليس الأمل المجاني، المطروح في الطريق، هناك أمل يرتبط بقدرة الإنسان علي تغيير حياته، ورغبته ونضاله من أجل هذا التغيير، هناك أمل يرتبط بمؤازرة البشر بعضهم لبعض، وفي قدرتهم علي تفهم ضعفهم الإنساني المشترك، وقدرتهم علي معاودة النهوض كلما وقعوا، هذا النوع من الأمل المرتبط بمجاهدة الذات الذي يطرحه «تحت السيطرة»، لا يقتصر علي مدمني المخدرات، وإنما يشمل كل المحن الشخصية، ويتجاوزها إلي محن الأوطان، ليست هناك «وصفة» جاهزة للأمل، ولا معجزة اسمها «الأمل»، الأمل وليد حالة «تراكم» لخبرات وإحباطات وتردٍ أخلاقي أحيانا يستطيع مجاوزة نفسه، وتصحيح أخطائه، وهذه هي «المعجزة» الحقيقية، معجزة «الإنسان»، بكل سقطاته وضعفه، ولولا هذا «الإنسان»، لما بُنيّت الحضارات، ولما أصبحت فكرة «الأخلاق» نفسها، ذات معني. إن لم تكن هذه «رسالة أخلاقية» للمسلسل، فسنظل ندور في دائرة الشعارات الأخلاقية الجاهزة، كالوجبات الدليفري، ولكان علينا أن نرمي بنصف تاريخ الفن، علي الأقل، في سلال المهملات، كأن نعتبر، مثلا، «محمود المليجي» كنموذج للشرير في السينما، مسيئا للأخلاق العامة، وأن نمنع من العرض فيلما مثل: «بداية ونهاية»، المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، وإخراج صلاح أبو سيف، لأنه يصدر للمجتمع حالة من «الكآبة»، ( مثل»تحت السيطرة»؟!)، ولأنه يؤرخ لانتهازية لاأخلاقية متمثلة في «حسنين»، ولأن «نفيسة « أو سناء جميل، تبررلكل فتاة فقيرة وغير جميلة أن تعمل بالدعارة، وهو ما لا يصح تصديره للمجتمع، ومن وجهة النظر الأخلاقية نفسها، فليست كل الأسر الفقيرة بها ابن انتهازي وفتاة منحرفة، كما أن كل أسرة ليس بها، بالقطع، مدمن للمخدرات! لكن هذا النوع من «القياس»، وهذا النوع من «الأحكام الأخلاقية»، وهذا النوع من مطالبة الفن بأن يمنح الناس صورة وردية «زائفة» لسلامة المجتمعات، لم يكن مطروحا، لحسن الحظ، في فترة ما قبل «التدين الشكلي»، و»الأخلاق الشكلية»، ونظرة واحدة علي إعلانات التليفزيون في رمضان الفائت تكفي لدحض المزاعم الأخلاقية، وهو ما كان يجب أن يتوجه له النقد بوصفه باحثا عن رسائل أخلاقية بدلا من المسلسل، فالمفارقة المؤسية بين موائد الطعام في إعلانات المطاعم، مما يسيل له لعاب القادرين أنفسهم، وإعلانات طلب الصدقات والتبرعات، هي الكاشفة لخلل أخلاقي جسيم، لا يراعي الهوة الطبقية، ويضغط، دون رحمة، علي أمعاء الجوعي وأخلاقهم، لكننا نري ما نريد أن نراه، ونغمض أعيننا عما هو جدير بالتحديق. (يتبع).