قد قال عنه يوماً يوسف إدريس لمبارك: إعطني التليفزيون ياريس أعطك دولة ناهضة حديثة في شهور قبل سنوات».

بينما أتابع مايجري في المجال العام لبلادنا المحروسة، طفر فجأة إلي مخيلتي حكاية، هي من فرط واقعيتها الدرامية يمكن تصنيفها من مفارقات الكوميديا الساخرة والنكتة الكاشفة. بطل حكايتنا هو صديقنا المرحوم السفير علي أبوسن، الدبلوماسي السوداني والمثقف العروبي الناصري الذي أوصي بدفن جثمانه في مصر التي عشقها وأقام وعمل بها بعد رحلة دبلوماسية حافلة في لندن وباريس. في إحدي رحلاته جلس إلي جواره أستاذ جامعي تبادلا أطراف الحديث والتعارف، قرب بينهما شغف المعرفة وطول الرحلة التي قطع هدأتها فجأة اضطراب وحركة غير عادية في الطائرة. توقع صاحبنا أنه ربما مطب هوائي أو طارئ اعتاد مثله من تكرار السفر، لكن جاره بدا مرتبكاً متوتراً، وأخرج من جيب قميصه مصحفه الصغير وراح يحوقل ويبسمل ويقرأ بينما صديقنا يضحك. بعد دقائق أعلن كابتن الطائرة أنه عطل بسيط تم علاجه، ولما سأل الجار صديقنا أبو سن: لماذا كنت تضحك بينما أنا أقرأ القرآن وأكاد أموت من الخوف، بادره صاحبنا: وهل قتلوا سيدنا علي وهو يطالع آرسين لوبين؟ لقد كان يقرأ مثلك القرآن. علي أبوسن لم يقصد أبداً مايمكن أن يتبادر لذهن أحدهم من الخبثاء أنه قصد النيل من القرآن معاذ الله، إنما أراد الإشارة إلي أنه رغم تسليمنا بأن القرآن منج من المهالك، إلا أنه لايعفيك من عملك أنت في مواجهة الخطر وتحسبك له والأخذ بأسباب النجاة والعمل عليها، إذ يتوجب عليك وأنت تقرأ القرآن اعتصاماً بالله وإيماناً بأنه قادر علي حمايتك أن تؤدي ماعليك أولاً من واجبات ومسئولية.إنه «فقه الأولويات» في إحدي تجلياته وهي كثيرة، لكننا نخاصمها فنقدم الآجل علي العاجل، وننظر فلانري إلا مايوافق الهوي، وتشغلنا صغار الأمور عن كبارها، من هنا يتبدي لنا كيف هي مشكلة حياتنا العامة التي يصر نجومها علي محاولة طحن الماء أوالحرث في البحر.
ياسادة نحن في حالة حرب، وهي معلنة علينا من أعداء الخارج وإرهاب الداخل ودماهم «عرائس الماريونيت» من المنتفعين والضالعين في التآمر، وصولاً إلي مراهقي السياسة وصبية الخبل الثوري المدعي، ودهاقنة السياسة المجوفين وحتي حسني النية من المغيبين الذين تم تعليب وعيهم ليعيشوا كما «النخبة» في الوعي البديل الذي زرعه في مخيلتهم عدو مغرض أو طابور خامس أو إعلام مغامر متربح أو غبي، فيصرون علي الحكم علي الأشياء كما لو كنا في ظروف الدولة المستقرة العادية لا الدولة المهددة والمستهدفة وهي في حالة الحرب والخطر الداهم.ولعلنا نخوض حرباً من أشرس الحروب المستحدثة وأحقرها سواء بالإرهاب أو حرب الجيل الرابع كما كتبت لك عنها في يناير الماضي بعنوان «السيسي لايلعب النرد مع هاري بوتر» وأوردت لك ماصرح به الدكتور «ماكس مانوارينج» أستاذ الاستراتيجيات العسكرية ورجل المخابرات الأمريكية في محاضرته التي تعد علامة علي لا أخلاقية السياسة الأمريكية، إذ يؤكد «قدراتنا العقلية الذكية، يقصد الأمريكان، هي السلاح الرئيسي في هذه الحرب الجديدة، وأساسها عمليات «زعزعة الاستقرار» التي تأخذ صوراً متعددة وينفذها غالباً مواطنون من الدولة العدو (يقصد المعادية لأمريكا)، ليجعلوا منها «دولة فاشلة» حيث نظل نحن في موقف ادعاء البراءة والصداقة والدبلوماسية بينما يتحول عدونا بفعل مواطنيه أنفسهم إلي كيان سياسي منقسم علي ذاته غير موحد تتناوشه مجموعات عقيدية مسلحة وعنيفة لتحوله إلي دولة للجريمة والفوضي والفشل». هذا مايفعله الأمريكان وحلفاؤهم وصبيتهم في تركيا وقطر وداعش وجبهة النصرة وفجر ليبيا وبيت المقدس وبقية التنظيمات الإرهابية الإخوانية علي حدودنا وفي سيناء، ومن أسف طابورهم الخامس الذي يصطف معه بعض أبرياء السياسة من فاقدي الأهلية و«النخبة» المعلبة، وأضعها بين قوسين حتي لايعاتبنا المثقف والمناضل الكبير حمدي مرسي، بأنها مصطلح طبقي، فيثيرون المشكلات دون مقتضي من ضرورة، بوازع الدفاع عن الحرية والديمقراطية، وهي بلا شك قيم نبيلة أفنينا عمراً في الدفاع عنها والدعوة لها والعمل للوصول إليها، لكنها ليست غاية في ذاتها بقدر ماهي وسيلة لتحقيق حياة كريمة لمواطنينا في دولة ديمقراطية حديثة، دولة العدل والمساواة والقانون، لكننا في نفس الوقت مطالبون بأن نحافظ علي أساس هذه الدولة وحمايتها من خطر التفكيك والفشل. من هنا نطالب كل الفاعلين في حياتنا السياسية بالتعقل والتروي ومحاولة إيجاد قواسم مشتركة تجمع الفرقاء علي تلمس فقه الأولويات وترتيب مطالبنا وحوائجنا طبقاً لظروفنا وواقع الأخطار المحيطة بنا قبل ترتيبها طبقاً لأشواقنا وأحلام مواطنينا وأهداف ثورتنا في يناير ويونيو وآمال الجماهير التي يضغط عليها الجميع دون تعقل أو رحمة، كما نناشد سلطة الدولة بوقفة تعبوية كما سبق أن كتبت لك في المقالات الثلاث الماضية، تعيد فيها الموازنة بين حسابات الداخل العاجلة وبين مطالب الجماهير الملحة، وتراجع فيها ترتيب أولوياتها بعيداَ عن العناد والاستقطاب والمغامرة التي يحاول استدراجنا إليها تيار مغيب أو عميل أو متربح أو متهاون، وتحقق قدراً من المرونة اللازمة للالتقاء في نقطة وسط تصلح أن تكون مرتكزاً لإعادة صياغة الأفكار والتوجهات والخطط، ولابد في ذلك كله من تعبئة عامة تفعل كل إمكاناتنا، تعبئة أساسها الفرز الوطني لا للشخوص والسياسات والتوجهات وحدهم، وإنما الأفكار بالأساس والآليات بالتالي، مايستوجب انفتاح سلطة الدولة علي مجتمع مدني بحاجة إلي صياغة أفكاره وتنظيم صفوفه ليعرف طريقه، وهذا مافعله جمال عبدالناصر في منعطفات تحدياتنا الكبري، وكانت وقفاته التعبوية العامة وشواهدها في الداخل والخارج، بما مكننا مرات عديدة من تجاوز أزمات ونكسات.
ياسادة اللعب في محيطنا العام أصبح أكثر مما يحتمل تأجيل النظر فيه، مثال واحد علي ذلك هو الإعلام ومصابنا الفادح فيه، وحجم الأموال العابرة للدول والتي يتم توظيفها للعب في أفكار الناس وقناعاتهم وبالتالي توجهاتهم. أين نحن من التليفزيون في ماسبيرو، وقد قال عنه يوماً يوسف إدريس لمبارك: إعطني التليفزيون ياريس أعطك دولة ناهضة حديثة في شهور قبل سنوات». لماذا نترك الدولة تحت رحمة الأموال المحمولة جواً وبراً وبحراً في الفضائيات والصحافة الخاصة والموجهة.؟ ولماذا نترك بحر السياسة يجف لأن بعض المتنفذين في الدولة يعوقون انطلاق العارفين والكفاءات عن إحداث نقلة نوعية في السياسة بالتمهيد لطليعة مثقفة تقود العمل العام وتحشد الجماهير وتعبئها نحو مصالح الوطن العليا ودولتنا الديمقراطية الحديثة التي تحتاج رجالاً أولي عزم وعلم ودراية وكفاءة ومعرفة.
عندما ارتدي السيسي بدلة الجنرال تفاءلنا بإشارته البليغة، التي للأسف لم تكتمل، نحو التعبئة والتغيير الشامل الذي ننتظره اليوم قبل الغد، وكما قلت له من قبل متسائلاً: هل لابد أن تدفع الثمن وحدك ياجنرال؟ أقول اليوم للجميع، الدولة والسياسة والمثقفين والوطنيين وقوي الشعب العاملة: إنها ساعة الفرز الوطني ياسادة، فلا تثاءبوا. وفي قاموس المحيط: تثاءب الرجل، أي أصابه النعاس أوالتعب والكسل، ففتح فمه واسعاً، وربما راح يقرأ بدل القرآن والدستور والميثاق الوطني، آرسين لوبين كما قال الراحل العزيز علي أبوسن.