لم تمر هذه الموازنة العجيبة علي المذيعة، فإما أن تكون سلميا؛ وهذا يعني أنك لن تقابل العنف بالعنف، كما نفهم السلمية، وإما أن تكون عنيفا، فما المعيار الذي يحدد اقترابك أوابتعادك عن السلمية؟ من الذي يحدد المسافة

في عام 1982 تم إنتاج واحد من أهم الأفلام في تاريخ السينما العالمية وهوفيلم «غاندي»، المقتبس عن سيرة حياة زعيم الهند الروحي المهاتما غاندي، يتناول الفيلم سيرة مقاومة «اللاعنف»، أوالمقاومة «السلمية» التي تزعمها «غاندي» لتحرير الهند من قبضة الاستعمار البريطاني في القرن الماضي، فاز الفيلم ب(8) جوائز أوسكار،والفيلم متاح علي اليوتيوب، لمن لم يره، ولمن يريد أن يتذكر مصطلح «السلمية» في منابعه الأصلية العميقة،أوسلاح ال»ساتياجارا»، كما سماه غاندي، وتعني التمسك بالحقيقة، قبل أن تلوثهاالأيادي الملطخة بالدماء، ففي مشهد مهيب، من مشاهد استراتيجية «اللاعنف» يتقدم الصف الأول من عمال مصنع الملح لمواجهة القوة البريطانية المسلحة، فينهال الجنود عليهم بالعصي الفولاذية، ليتقدم الصف الثاني من ورائهم، إلي آخر الصفوف، بينما تنتظر النساء ليحملن الجرحي والمكسورين صفا وراء الآخر، دون رد فعل سوي « السلمية التامة» التي حررت شعبا بكامله. ليست السلمية، بهذا المعني، إلا عدم مواجهة العنف بالعنف، أما إذا قرر الإنسان أن يواجه العنف بالعنف - فيمكن أن يبحث عن معني آخر يصف به مقاومته. تصادف أن أذاعت إحدي القنوات الفيلم في الليلة نفسها التي سمعت فيها مداخلة أجرتها قناة التليفزيون العربي مع أحد قيادات الإخوان الهاربين إلي تركيا)، تصلح كنموذج لكشف الخطاب الإخواني المتأخر علي الفضائيات، حيث قال:» إننا لم نتحدث عن السلمية المطلقة أوالمواجهة المطلقة»! لم تمر هذه الموازنة العجيبة علي المذيعة، فإما أن تكون سلميا؛ وهذا يعني أنك لن تقابل العنف بالعنف، كما نفهم السلمية، وإما أن تكون عنيفا، فما المعيار الذي يحدد اقترابك أوابتعادك عن السلمية؟ من الذي يحدد المسافة التي يجب أن تتوقف عندها حتي يصير التوصيف الفعلي لما تقوم به هو»العنف»؟! يقرر القيادي الإخواني أن هناك «سلمية» مطلقة، و»مواجهة مطلقة»وبينهما ما أسماه: درجات من السلمية، تندرج تحتها «عمليات نوعية»، « مثل تفجير أبراج الكهرباء»، وحين تندهش المذيعة من إدراج مايلحقه تفجير المرافق العامة من إضرار بحياة الناس العادية، تحت مسمي «السلمية»، يبادر الإخواني بأن هذا هو»العقاب» للشعب الذي يرتضي أن يعيش تحت الحكم القمعي! وبعيدا عن هذا الاعتراف المعلن من جانب القيادي الإخواني الهارب، وبعيدا عن توضيح ماصار معروفا للشعب المصري «الواقع عليه العقاب»، تحت مسمي السلمية غير المطلقة! بدءا من الاغتيالات وليس انتهاء بقتل جنودنا في سيناء، في ذكري 30 يونيو، تبدوفكرة «العقاب» و»التدرج فيه»، لاعلاقة لها بالسلمية، لا لأنها تنطوي علي «عنف» فعلي فقط، ولكن لأنها تنطوي علي سلطة فعلية يمارسها «المعاقِب» علي «المعَاقب»، والتي تضع «المعاقب» في منزلة أدني، يتقبل العقاب ممن هوأعلي منه، أومن له السلطة عليه، أي أننا هنا إزاء موقف «فوقي»، من الشعب المصري، تمارسه جماعة تظن أنها لاتزال في السلطة، ومن حقها «المراقبة والمعاقبة»( إذا استعرت اسم كتاب للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو)، بل إن من حقها أيضا صك المصطلحات، باعتبار أن الشعب الأدني، والأجهل، لايعرف الفارق بين السلمية ودرجاتها، وسيتقبل (كما يتقبل أفراد الجماعة من أدبياتها- اللعب بالكلمات حتي تفقد معناها الأصلي، وتكتسب معني جديدا،في المعجم الإخواني، كأية شفرة بين جماعة أو»جيتو»! ) كما سيتقبل أن تفجير مرافقه واغتيال قضاته، وقتل جنوده، يعتبر من درجات «الترقي» من السلمية المطلقة، لا الصعود علي درجات العنف «الممنهج»، في هذه السياقات من التلاعب بالكلمات تفقد «السلمية» معناها، ويفقد «العنف» معناه أيضا، فيتساوي السباب،بماهوعنف لفظي، مع الذبح الداعشي، باعتبار الأخير: درجة من درجاته! هكذا يتم تزييف الوعي وتبرير أي شيء وكل شيء بدءا من «وسطية» التدين الإخواني، وانتهاء «بوسطية» مزعومة علي سلالم السلمية والعنف!