إنها السياسة قبل الأمن أحياناً، وفي إفلاسها ندفع الثمن غالياَ، فهشام بركات لم يقتله الإرهاب وحده، ولم تزهق روحه الطاهرة بسبب ثغرة في الأمن، وإنما بسبب ثقوب كثيرة في ثوب السياسة المهلهل الذي أكلته العتة وبالت عليه فئران الشوارع وصبية المراهقة الثورية في بلادنا المنكوبة بتسرع الصغار وبطء الكباروتدني مستوي الأداء العام.
هشام بركات لم يقتل بيد الإرهاب الإخواني الخسيس وحده، إنما دفع حياته ثمناً لسياسات التراخي والإهمال والبلادة والكسل. هشام بركات قتلته أكوام الزبالة في الشوارع وتسيب السلوك العام واستباحة المجال السياسي العام للطابور الخامس وبعض صبية الإعلام المأفونين المهووسين بالهيصة والإعلان والجري وراء التفاهة والعبط باعتبارها سبقا وهدفا للكسب السريع، قتل بطلنا الشهيد بسبب مناخ الارتجال وعشوائية الأداء الحكومي والتعايش مع القبح والسطحية وسياسات الجري في الشوارع والأفق المسطح البليد. تتكرر الحادثة نسخة بالكربون مما سبقها، ولا أحد يدرس أو يحلل أو يتعلم أو يحاسبه أحد بحزم يردع غيره ويتراكم لديه خبرة مؤسسية. أكوام الزبالة تنمو وتتكاثر وتلوث المجال العام، ووزير البيئة لايزال في موقعة يملأ الدنيا ضجيجاً، والإدارة المحلية بمحافظيها ورجالها كأن شيئاً لم يكن، فوضي الشوارع والمرور، وقلة أدب المسلسلات التي كان في إمكان جهاز حماية المستهلك أن يوقفها جميعاً باعتبارها تمثل إساءة للواقع المصري المكافح وتروج لسلوكيات الإجرام وتغييب الوعي وتحض علي العنف وكأن شعار الدراما ورسالتها: هي المجد للبلطجة والمخدرات والدعارة وليسقط الجميع. وهو أمر يشكو منه المجتمع وأشار إليه رئيس الجمهورية وتضرر منه المصريون، ثم ذهب الجميع يغط في نوم عميق، في حين أنه كان في مقدور الدولة أن توقف هذه الجرائم والإساءات بأن يتحرك جهاز حماية المستهلك ليمنع هذه المسلسلات كما فعل مع إعلان الشيبسي الذي اضطر أصحابه لتعديله واختصاره بعد إيقافه من الجهاز، وساعتها سيمتنع كل هذا المال المشبوه وشركات الإعلانات التي تعمل لتخريب وعي الناس وتفسيخ قيم المجتمع والترسيخ لتفكيك ثوابت الوطن والأخلاق وقيم العمل والاجتهاد والتفوق، وسيتراجع وينحسر هذا العبث. ويتعلم الآخرون أن هناك حسابا وعقابا وأن من يخطئ لابد ان يدفع الثمن. ولن يستطيع أحد اتهام الدولة بشيء، فمن اتخذ القرار والمبادرة هو جهاز حماية المستهلك وليس الرقابة علي المصنفات. هكذا نرسخ لقيم الجدية وتحمل المسئولية وندفع الناس بعيداً عن التراخي والتعايش مع القبح والرداءة. وساعتها يمتنع الإهمال وتقوم الداخلية والحراسات الخاصة بواجبها في التأمين والكشف والتحري وجمع المعلومات ووضع الخطط البديلة واستخدام المنهج العلمي في التعاطي مع التهديدات والتحديات، ولا نقف عاجزين أمام كل حادثة ومصيبة لنقول إنه الإرهاب وأن أجهزة مخابرات دولية ضالعة في التخطيط والتمويل والتنفيذ. جميل، نتفق معكم، لكن نسألكم وأين كانت أجهزتكم ومخابراتكم وضباطكم ورجالكم والمحظيون  والمدللون  من رجالكم الذين أغلقتم دونهم كل الدوائر فصاروا حول الرئيس ومعه في المناسبات والاحتفالات واللقاءات والندوات والسفريات، وحين الجد فلا تجد منهم أحدا يدفع الثمن إلا الرئيس وحده ومعه الشعب الذي يثق فيه ويدعمه. فشل نظام مبارك عندما عجز عن «تدوير النخبة» فصادرت مقاليد الحكم مجموعة محدودة أساءت بفسادها للنظام والدولة والناس.
الدول لاتبني بحسن النوايا، ولايكفيها للصمود والنمو إخلاص الرئيس واجتهاده وطموحه، وحوله عدد من الرجال المخلصين، بعضهم نعرف قدراتهم وحجم مايستطيعون القيام به،فلماذا تخرج الأمور حتي الآن دون أن نلحظ بصماتهم عليها؟. وبكل الوضوح أتحدث هنا عن الجنرال خالد فوزي وزير المخابرات العامة الذي كتبت لك هنا أن تعيينه إيذان بعهد جديد من الجدية والمحاسبة والتجديد والإبداع، خالد فوزي يعرف خريطة السياسة والتنفيذ والعمل العام وكل رجال مصر المخلصين وكوادرهم وطليعتهم، ويعرف قدرات كل فرد ويستطيع أن يعمل مع العفاريت الزرق، فلماذا نجد في مواقع المسئولية حكومة منزوعة السياسة والتفكير ووزراء «علي ماتفرج». عندما يوكل الأمر إلي غير أهله، تكون الحصيلة التقصير وضعف الكفاءة وترسيخ عدوي الاستنامة والارتجال والعشوائية وضمور السياسة وإفلاسهاوسوء الإدارة وتراكم الأزمات، ويستمر نزيف الفرص والوقت والدم، وتشيط أعصاب الجماهير المحبطة بقدر عشمها في الرئيس، وتتكرر الإحباطات والهنات، ويدفع الجنرال وحده الثمن خصماً من رصيده لدي الجماهير، رغم إخلاصه وتفانيه وحبه للناس وإرادته أن يقدم شيئاً كبيراً للوطن، وهو يقدم بالفعل، لكن عدم حسم الحكومة لموقفها من الإخوان وتنظيماتهم، والتردد في اتخاذ الإجراءات الحاسمة لتجفيف منابع تمويل الإرهاب، والجمعيات الدينية والأحزاب الدينية التي تعمل خارج إطار الدستور ونصوصه، والضعف والهزال الباديين علي الحكومة في هذا الأمر طمع الآخرين للتجاوز، وبدت الدولة في ثوب من الرخاوة والتسيب لايتناسب مع تحديات الداخل ومؤامرات الخارج ونفاد صبر الناس، ويدفع الجنرال وحده الثمن.
البلد يحتاج لرجال دولة لديهم القدرة علي الجري في ماراثون طويل مع رئيس طموح جاد لايكل ولايمل يعمل ويجتهد بينما كثير من رجال الدولة «فرد نايمة» لاتناسب قدراتها سرعات الرئيس الفائقة ومبادراته الطامحة.
والبلد يحتاج لتعبئة عامة، ليس بمفهومها العسكري بالأساس، رغم أننا في حالة حرب حقيقية وإن تكن غير معلنة، تعبئة علي غرار مافعله جمال عبدالناصر في 56 مع العدوان الثلاثي، وحشد كل طاقات المجتمع إيجاباً نحو البناء، وبالقانون إيقاف كل قيم السلب والتنطع وفاعليها عند حدهم، فما معني أن يسمح لعبدالمنعم أبوالفتوح الضرب العلني في شرعية نظام السيسي دون محاسبة؟ وأن تترك قنوات المال السايب والمنزوح والمحمول جواً لتلعب في عقول الناس بالإعلام المغشوش والإعلان المدسوس والدراما الهابطة، أما يكفينا مقالات فهمي هويدي المسمومة وهي تنضح غلاً وتآمرا وكذبا ومخاتلة. نحتاج تعبئة عامة يشعر معها الناس بحجم ماتواجهه مصر من مخاطر، ومايتوجب علي كل وطني أن يؤديه حتي لاتضيع منا مصر كما كاد أن يحدث قبل 30 يونيو العظيمة، تعبئة توقف المال والأصابع الدولية وحتي بعض أشقائنا الخليجيين، عن اللعب في الإعلام والأحزاب والجمعيات المصرية. تعبئة تعيد للشعب ثقته في تفويضه للجنرال القوي الذي اختاره رئيساً ليحمي الدولة من الرخاوة والتفكيك ويصد عنها أطماع المتربصين. وهذا يحتاج لتدوير النخبة بمفهومها الطبقي وتحلقهم حول الرئيس، لنفسح المجال لطليعة وطنية قادرة علي الفهم والرؤية والتخطيط والعمل، تكون أمينة علي طموحات الوطن وتحمي كيانه ومقدراته، طليعة تتواكب قدراتها مع شخصية رئيس لايعرف المستحيل، طليعة تكون ظهيراً للوطن، وفي تقديري أن هذا «واجب الوقت»، والذي لايصح الأمر بدونه فهو واجب، وحتي لايدفع الجنرال وحده الثمن.
رحم الله البطل هشام بركات وكل شهدائنا، وحمي مصر من كل سوء ونصرها علي القوم الظالمين