منذ أيام وقعتُ علي بيان ضد قانون تنظيم التظاهر، كانت هناك نقطة أو نقطتان في البيان لا أوافق عليهما، تحسبا لاستغلال القانون لتبريرعنف مظاهرات الإخوان، لكنني لم أتوقف عندهما، ربما للمرة الأولي في حياتي أوقع بيانا لا أوافق علي كل مافيه، جملة أوتفصيلا، لكن مشهد «بناتنا» بملابسهن البيضاء في السجون أكبر من الأفكار، وأكبر من ضرورة اكتمالها، خاصة وأنا أشهد خروج 165 مسجونا بعفو رئاسي ليست بينهم فتاة واحدة، قد يشي جسدها الضعيف بقدرتها علي إشعال «شمروخ»! كان لابد أن أفرح- إنسانيا- أيضا بالعفو عن المسجونين الذين سيبيتون في أحضان ذويهم، حتي وإن رفع بعضهم علامة «رابعة»!في يوتيوب انتشر علي مواقع التواصل، قيل بعدها إنه غير صحيح، وحتي لوكان صحيحا أليس لهؤلاء آباء وأمهات كبناتنا، سيبيتون، ولو لليلة، دون رعب ما يلاقيه أبناؤهم في السجون؟! أليس من بين هؤلاء أنفسهم من أعتبره ابني في الجامعة وأحاول أن أرده عن عنت الأفكار وعنفها؟! أن تكون إنسانا بحق يُلزمك هذا بأن تضع نفسك دائما في موقع الآخر، حتي وإن كنت ضد أفكاره، ولكن أن تكون ملاكا فيلزمك هذا أن تتغاضي عن حزنك الشخصي، وإحباطك، وقلقك الإنساني علي من تعتبرهن داخل دائرة ما تؤمن به من أفكار مدنية، حتي وإن شطحن بها، لأنك تعرف أنك حين كنت في أعمارهن كنت ستفعل ما فعلن تماما، ولأنني لست ملاكا، ولا أريد أن أكون، شعرت بغُصّة وأنا أبحث عن أسماء الفتيات المتظاهرات ضد قانون التظاهرفلم أجد واحدة منهن، كأنهن سقطن سهوا في ذلك البياض الممتد لملابس السجون، ومن أفراح رمضان ومسلسلاته وإعلاناته ومن أب وأم ينادي عليهن ليتشاركوا «لمة» الإفطار. أن تكون ملاكا فعليك ألا تتخيل بعد اليوم أن الملائكة بأجنحة بيضاء، لأن اللون الأبيض سيعيد إليك صورهن في السجون، وأنت تعرف جيدا أنهن أيضا «لسن ملائكة»، لأنهن - وهذا ما أثق فيه ثقتي في نفسي- لن يقبلن أبدا أن يسجدن في مشهد تمثيلي أمام الكاميرات( حتي وإن دفعن حياتهن ثمنا) كما رأينا في يوتيوب، ثبت أنه صحيح للأسف، لأحد المفرج عنهم يدفعه أحد قيادات الداخلية ليسجد أمام الكاميرات ويعيد اللقطة، بينما نسمع صوت الضابط الكبير وهو يقول-من وراء الكاميرا-: (إحنا مش حنطلع في الكاميرا)! أن تكون ملاكا ستشفق علي الشاب لأنه اشتري حريته بهذا الخِزي، ولأنك لم تجرب مرارة السجون وشقاءها، لن تلومه، لكننا لسنا ملائكة، ولدينا ذاكرة للأسف، ولو قصيرة الأمد، تمكننا من أن نستعيد السجدة نفسها وهي تقبّل أرض أمريكا، في مشهد لا يُنسي لابن قيادي إخواني، أثارت ضجة يتطاير غبارها حتي اليوم، تلك السجدة التي اشتهر بها لاعبو الكرة حين تركل أقدامهم الكرات في الأجوان، لا سجدة المؤمنين في ليالي رمضان، تلك السجدة المسبوقة بمناشدة أوباما والتذلل له، والمتاجرة بحقوق الإنسان، وهو ما لم تفعله، ولن تفعله، بناتنا في السجون. أن تكون إنسانا فقط، بشرّه وخيره، ستستطيع التفرقة بين الزيف والحقيقة، بين حب الوطن وحب «الفكرة» المتجاوزة والمضادة للوطن، وأن تكون إنسانا لا ملاكا ستعرف الحزن، الذي لا تعرفه الملائكة، وستعرف الاختيار وتحمّل تبعاته، وستعرف الدموع، ولوعة فقد الأبناء. أن تكون ملاكا ستنسي كل ما قرأته في هذه الصفحة، وأن تكون إنسانا ستتذكره وأنت تشتري لبناتك ملابس العيد الملونة، وستتذكر معي بناتنا السجينات، ينتظرن «الزيارة» في العيد بملابس بيضاء، حتي وإن كنت لا تعرف أيهن مثلي، بشكل شخصي، حتي وإن لم تمس كتفاك أكتافهن في ميادين الثورة، ستراهن بين جموع المصلين، لله وللحق وللحرية، وستدعو لهن في صبيحة العيد أن يعدن صغارا بملابسهن الملونة يمسكن بأكف آبائهن وأمهاتهن، كما كن يفعلن قبل أن يتطاير علي أحلامهن رذاذ الدماء