رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده: لوغير هذا لكان أحسن، ولوزيد كذا لكان يستحسن، ولوقدم هذا لكان أفضل، ولوترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل علي استيلاء النقص علي جملة البشر».هكذا تحدث «العماد الأصفهاني»أبو عبد الله محمد بن حامد صفي الدين، المؤرخ والأديب وشاعرالدولة الأيوبية(519 - 597 هجرية). ولعل النقص لم يعد فقط من طبائع البشر، إذ تجاوزه إلي طبائع ذلك العصر المضطرب المريض بظواهره وإبداعه وفوضاه التي نعايشها جميعاً، والتي تستوجب من الكتاب والمفكرين وقادة الرأي والسياسة والشخصيات العامة، مراجعة دائمة ورؤية متجددة ومعاصرة لتحولات الفكر والعلم والسياسة في مظانها ووسائطها الحديثة والتي أضحت سبباً مباشراً لتغير المعارف والمفاهيم، وإلا عانت المجتمعات من الجمود والاستاتيكية، وتحولت الأفكار إلي «دوجما» تصنع من الفوضي قدر ماتسبب من تخلف وجمود ورجعية، ناهيك عن السطحية والخرافة ومجافاة منهج العلم وطبائع الحداثة والتطور. ولو أن العماد الأصفهاني كان قد عايش عالمنا الحالي وأيامه النكدة، لهاله مانفعله بأنفسنا وبلادنا،ولما استطاع تفسير مانشاهده ونكابده في محيطنا العام المشغول بالتوافه والسخافات والشائعات ومعارك «دون كيشوت» الوهمية، وكل مالاينفع الناس وكأننا بلاعقل ولافكر ولاقضية تشغلنا ولاإرهاب يتهددنا ولامؤامرات تستهدف وجودنا وقدراتنا وتاريخنا وثقافتنا وحتي خرائط جغرافيا منطقتنا ومصالحنا وحدود وكيانات بلداننا ومستقبلنا. ننظر تحت الأقدام ولانتطلع للأفق، نفتقد البصر والبصيرة، مصابنا فادح في النخبة والرؤية والفكر والمسئولية.
ولقد كاتبتك هنا الأسبوع الماضي عن فريضة التفكير العلمي، والتفكير خارج الصندوق الذي يتشدق به القاصي والداني، وكأنهم يتخذونه تكئة لاجتراح اللامعقول. بينما في معناه الأصيل هو نزوع للإبداع والعلم والمبادرة لإيجاد حلول غير تقليدية لمشاكل تقليدية. إنها فضيلة التفكير والموضوعية وتقدير التحديات والمسئولية. وهي من أسف فريضتنا الغائبة في وقت تسيده الجهل والارتجال والعشوائية. ولعلي كتبت لك من قبل: علمنا التاريخ أن مستقبل الأوطان رهن بشعوبها في تطلعها للحق والعدل والحرية ورصيدها الحي من فكر وعلم وإرادة، وعلمتنا التجارب أن آفة الرجال الهوي، ولسوف يذكرالتاريخ أن مانعايشه من أزمات ومحن كان جزاءً وفاقاً لهوي لجنة «البشري» والتعديلات الدستوريةالتي مهدت للإلتفاف علي الثورةوالتأسيس للإنتهازيةوالفوضي، ثم ممارسات حكومات عاجزة ونخبة مغيبة وإعلام سقط من حالق، ولا مخرج لنا إلابالتركيز علي طموحات جماهير الثورة وقائدها في دولة مدنية عصرية ناهضة، تؤسس لمجتمع العدالة والمعرفة، إحياء لتاريخ تليد ونبوغ مصري علم العالم في فترته الفرعونية التي أبدعت الآداب والفنون والعلوم وأسست لفجر الضمير ووحدانية الخالق وانسانية البشر،ولقداستمردورمصرالتنويري في العصوراليونانيةوالرومانية،وتجلت جذورها عميقة وأصيلة في النهوض العربي الأول في أواخر العصر الأموي وخلال العصر العباسي،أي الفترة مابين منتصف القرن الثامن الميلادي وحتي القرن الثاني عشر، حيث انفتحنا علي العالم في حركة نشطة للتأليف والتأسيس والترجمة،استفاد منها الغرب وكانت من أهم روافده عصرالرينيسانس. فإذاماركزنااهتمامنا بتاريخنا المعاصر، فإن أبرزأمثلتنا للتحديث والنهضة بدأت منذ1805معمحمدعلي ومحاولته القوية لتأسيس دولة مصرية حديثة حاول إحياءمشروعها القومي للنهضة جمال عبدالناصر في خمسينيات القرن العشرين.
وكل مرحلة من مراحل صعودنا التاريخي، كانت لها مشروعها الفكري الذي مهد لها. فكانت شواهد مشروعنا الفكري للنهضة في مصرالفرعونية مدونة في وصايا الآلهةوأدبيات كهنة معابد آتون وآمون وفي برديات الكاتب المصري القديم ومأثورات آلهة الحكمة وكتاب الموتي ومحكمة الضمير، وكان مشروعنا الفكري للنهضة الإسلامية شواهده في حركة الترجمة والتأليف الكبري في العصرالعباسي والانفتاح علي أفكارالعالم وعلومه وفلسفاته والبناءعليهاوالإضافة لها. وكانت شواهد مشروعنا الفكري للنهضة مع محمد علي، بعثاته العلميةلأوربا وماتلاها من أعمال وأفكارالتنويروالحداثة عند رفاعة الطهطاوي ثم الكواكبي ومحمدعبده ورشيدرضا وشبلي جميل وسلامة موسي ويعقوب صنوع وساطع الحصري وغيرهم.
ومهدلإحياء مشروعنا للتحديث والنهضة مع جمال عبدالناصر مشروعاً فكرياً استشرف آفاق العلم والمعرفةعبرالمتوسط وبدءا من «في الفكرالجاهلي» و»مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين و»الإسلام ونظام الحكم» للشيخ علي عبدالرازق وعباس العقاد ومساهماته وأعمال لطفي السيد والجامعة الأهلية وجامعة فؤاد الأول وتعادلية توفيق الحكيم وأعماله وابداعاته والوضعية المنطقية وفلسفاتها عند زكي نجيب محمود واجتهادات يوسف كرم وعثمان نوية وفؤاد بدوي ومراد وهبة وعبد الوهاب المسيري وبنت الشاطئ ولويس عوض وشروحاته النقدية للتجربة الناصرية «أعمدةالناصريةالسبعة».
ولم نكن أبداً نحرث في البحرولكننا كنا من هنانبدأ مع خالد محمد خالد وكثيرين غيره أحدثوا حراكاً ثقافياً واجتماعياً اشتبك مع فكروطني خلاق وروافد عالمية ملهمة تطلعت عبرالمتوسط لحضارته وتقدمه وفلسفاته. ولم  تتأخرمدرسةالعلوم المصرية عن المشاركة والتأسيس،شواهد ذلك في الجمعية الجغرافية ومجمع اللغةالعربية والمجمع العلمي والإسهامات العلمية الدولية لمصطفي مشرفة وعلي إبراهيم وطلعت النادي وسميرة  موسي ومدرسة الري المصريةومؤسساتها العلمية وابداعات حسين فوزي ومدرسة القصرالعيني ومتاحف التاريخ الطبيعي والمتحف المصري القديم ومتحف علوم البحار وغيرها الكثير، والكثير في مسرح الكسارونجيب الريحاني ويوسف وهبي وزكي طليمات والسكندريين العظام عبدالله النديم وسيد درويش وسلامة حجازي وبيرم التونسي ومحمود سعيد وسيف وأدهم وانلي ومئات غيرهم.
كذلك كان إنتقال أوربا من العصور الوسطي ومحاكم التفتيش والإحياء الديني إلي التنوير  والرينيسانس والحداثة مهد له وسبقه مشروع فكري للنهضة الأوربية في الإصلاح الكنسي والديني وفي المنهج» كانط» وفي الحرية «جون ستيوارت مل» وفي العقل «هيجل» وفي نظام الحكم والسياسة من التفويض الإلهي للحاكم إلي الشعب مصدر السلطات «هوبز - لوك» وفي العقد الاجتماعي «جان جاك روسو» وفي أبوالقوانين «مونتسيكيه» وكميونة باريس والكونفانسيون وافكارديكارت من الشك إلي اليقين وفرانسيس بيكون وجوته ونيتشة والكشوف الجغرافية وكوبرنيكوس وثورة الأفلاك السماوية ونيوتن وقوانين الديناميكا ونيتشة واينشتين والنسبية وبوهر وتركيب الذرة وماكس بلانك ونظرية الكم «الكوانتم» وابداعات الكومبوزرس العظام اشتراوس وبرامزوباخ وهايدن وموتسارت وفنون ليوناردو دافنشي ومايكل انجلوورينوارومونييه وفان جوخ وبيكاسو وسلفادور دالي وهنري مور.
لذا ما أحوجنا اليوم إلي مشروع فكري للنهضة يخاطب المستقبل ويستشرف نبوءاته. مشروع يعيد قراءة التاريخ واكتشاف الإنسان ويضع منهجاً للحياة والتقدم علي أسس العلم والعدل ومعطيات السياسة، وليكن هذا هو طريقنا للخروج من الأزمة التي جعلت من التفكير في المستقبل فريضتنا السياسية الغائبة.
«إني