شريف إمام
شريف إمام


العلوم و التكنولوچيا في الحضارة المصرية

كم مرة حُرقت مكتبة الإسكندرية العظمى؟

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 16 ديسمبر 2021 - 12:25 م

بقلم: شريف إمام

في البدء.. منذ ما قبل الإسكندر المقدوني بقرون عديدة و مدينة الإسكندرية العظيمة الجميلة كانت تحت أطماع العالم القديم كله لموقعها الإستراتيچي المتميز كمدينة كبرى على البحر الأبيض المتوسط و أيضاً منفذاً بحرياً للعُمق الداخلي في مملكة الحضارة و العلوم و التجارة و الصناعة و الروعة و الجمال الأعظم في التاريخ ...كمت. و قبل الإسكندر المقدوني كانت رع-كد أو منشأة رع أو منشية رع (و هو الإسم المصري القديم للإسكندرية) هي مدينة بناء المدن أي ورشة عمل بناء مدن الساحل و الدلتا و صناعة سفن الأساطيل التجارية و العسكرية المصرية الشمالية القديمة. الإسكندر حوّل المدينة من ورشة عمل ضخمة إلى مدينة جمال و عِلم و مكتبات و فروسية و مصارعة و مسرح و لهو و متعة و تجارة.

منذ القرن الأول قبل الميلاد، و بعد أن خرج من الإسكندرية شعاع المسيحية لينير العالم و يُبنى فيها أول كتدرائية في التاريخ المسيحي كله في سنة 49 ب.م. التي أسسها القديس مرقس الإنجيلي كانت ضريبة هذه المدينة العظيمة هي الأطماع و التدمير و القتل و الحرق و صراع التعصّب الديني فسقط من المصريين الكثير جداً من الشهداء في عصر الإستشهاد (ربما 1 مليون شهيداً حسب مقال د. مينا عبد الملك في جريدة الأهرام في 3 سبتمبر 2020) و حتى أوائل القرن الخامس بعد الميلاد. هذه المدينة العظيمة ببطولات أبنائها و دماء شهدائها المصريون ستظل في جبين التاريخ منيرة.

 حتى القرن الأول بعد الميلاد، فمكتبة الإسكندرية العظمى كانت أعظم و أضخم مجمع فكري و ضياءً للبشرية. إحتوى 90% من عدد كتبها (المُقدّر بين 400 ألف إلى 1 مليون) على برديات و مجلدات المعابد المصرية القديمة و 9% كتب إغريقية و 1% بابلية و فارسية و آشورية و هندية و غيرها. الإغريق قاموا بتجميع معظم لفافات البردي و الكتب المصرية من المعابد الذين إستطاعوا الحصول عليها و وضعوها في المكتبة. هناك بالطبع آلاف مؤلفة مما سُرق و حُرق و أخفِي و لم يظهر للعالم حتى اليوم و يُعتقد أن السجلاّت المصرية القديمة منذ أول التكوين التي فيها أسرار و أسفار و علوم الكون كله مازالت مخفية. المكتبة كانت مكوّنة من مُجمّعين ضخمين للبرديات و الكتب أحدهما كان يُسمّى سيبراپيوم (المجمّع الخارجي) و الآخر موسيون (المجمّع الداخلي) كما روى المؤرخ الروماني مارسيلّينوس في كتابه "التاريخ" في سنة 385 ب.م.

الحرائق

بإختصار بقدر المستطاع و لكي لا تملّ من القراءة، لأن الروايات متضاربة جداً لكن مكتبة الإسكندرية العظمى حُرقت و دُمّرت كالآتي خلال التاريخ المُسجّل و المعروف:

1)    كما روى المؤرخ الإغريقي اليهودي پلوتارخ، فإن أول من يُلام هو يوليوس قيصر الرومان في سنة 48 ق.م. عندما كان يُطارد إبن زوجته الچنرال پومپيي ماجنوس فحاصره أسطول بطليموس الثالث عشر (أخ الملكة كليوپاترا) البحري المصري حول ميناء الإسكندرية لأربعة شهور. و لفك حصار أسطوله، أمر يوليوس بحرق السفن الراسية في الميناء فأمتدت النيران لتطال الأسطول المصري و تمتد إلى مكتبة الإسكندرية في فبراير 47 ق.م. لا يُعرف الحقيقة مدى الدمار الذي سببته النيران في المكتبة لكن يُعتقد أن مارك أنتوني عشيق كليوباترا قد جمع ما يقرب من 200 ألف بردية و كتاب و مخطوطة بعد الحريق ليُنشئ و كليوپاترا بهم و يرمما المكتبة و يُسمياها مكتبة سيراپيس.

2)    بعد إنتحار كليوپاترا في 12 أغسطس سنة 30 ق.م. و سقطت معها مصر نهائياً في قبضة الرومان لتنتهي بذلك عصور و دهور طويلة جداً من النور و العلم و العبقريات من الإمبراطورية التي قادت البشرية كلها و أخرجتها من الظلام، فهناك 3 حرائق أخرى لا يذكرها التاريخ إلا نادراً للمكتبة. أحدها كان في سنة 181 ب.م. خلال فترة حكم الإمبراطور الروماني أوريليوس و إبنه كومودوس و مرة أخرى في سنة 217 ب.م. خلال حكم الإمبراطور الروماني ماكرينوس على الرغم من أن تفاصيل الحريقين غير واضحة للتاريخ. و مرة ثالثة خلال إعادة إستيلاء الإمبراطور الروماني أورليان على الإسكندرية بعد إحتلالها من قِبَل متمردين من تدمر السورية، و خلال الحرب دُمر و حُرق جزء أخر من المكتبة و محتوياتها.

3)    في القرن الرابع بعد الميلاد بلغ التعصّب الديني المسيحي أشدّه و كان التكفير في ذروته و الصراع بين الدين و ما تبقى من العِلم كان مُروّعاً كما روى إدوارد جيبونز في كتابه "تدهور و سقوط الإمبراطورية الرومانية". قام ثيوفيلوس بطريارك الإسكندرية بتحويل ما تبقى من المكتبة (مكتبة سيراپيس التي رممتها كليوپاترا) إلى كنيسة مسيحية في سنة 391 ب.م. ليُنذر بحرب على العِلم و بسط سطوة و تطرف الدين. خلال 25 سنة تم حرق و تدمير المكتبة و مُعظم محتواياتها المتبقية من قِبَل مسيحيين متعصبين كان منهم پيتر القارئ الذي قام بسحب آخر علماء مصر العظيمة و أخر عباقرة التاريخ القديم، الفيلسوفة هيپاتشيا السكندرية، من على عجلتها المصرية و ضربها بالأحجار و هشّم جمجمتها و قطّع جسدها و حرقه في نارٍ وقودها أوراق الكتب و البرديات المصرية و الإغريقية في مارس من سنة 415 ب.م.

4)    تذكر معظم المراجع الأجنبية حول العالم و منها أيضاً عربي (كالمقريزي و القفطي و إبن العبري) أن الخليفة عمر إبن الخطاب أمر عمرو إبن العاص بحرق ما تبقى من المكتبة في سنة 640 ب.م. بعد أن أصبحت الإسكندرية تحت السيطرة العربية لأنه كان فيها ما يُناقض القرآن. لكن الحقيقة ليس هذا صحيحاً أبداً. فالعرب كانوا شغوفين بالتعلّم من حضارة المصريين و كتاباتهم و فعلاً تعلّموا فيما تبقى من مكتبة الإسكندرية خلال أسفارهم إلى مصر و كذلك في بلاد فارس، و هذا مؤكّد. فعلوم العرب كان معظمها من مصر القديمة ثم فارس. لكن يجب أن تُفرّق بين فترات الخلافة الإسلامية و بين العرب. الوجود العربي في مصر لم يدُم طويلاً و إنتهي قبل القرن الثالث للهجرة (سنة 816 ب.م.) و بدأ العباسيون المسلمون في حكم مصر و من هنا بدأت الكارثة بعد أن تقوم كل فترة خلافة إسلامية بالإطاحة و الإنقضاض على الفترة التي سبقتها. كتب الفلكي الأميريكي الشهير كارل ساجان أن: "الوثنيون الرومان حرقوا نصف المكتبة و المسيحيون المتعصبون حرقوا نصف النصف المتبقي و المسلمون المتعصبون حرقوا النصف الأخير و بهذا إختفت أعظم علوم التاريخ على يد الأطماع و التعصب". المؤرخ لوتشيانو كانفورا كتب: "أن هذه الفترة من حكم المسلمين الخلفاء هي التي بدأت فيها النهاية الأخيرة لمكتبة الإسكندرية". فمن الواضح أن العباسيين بخليفتهم أبو العباس عبدالله الشهير بـ "السفّاح" في ظل صراعه مع البيزنطييين قد تم الإنهاء على ما تبقى من عقل و عِلم العالم القديم تماماً و إن لم تكن الأحداث واضحة للتاريخ أبداً حيث لا تُسجّل المراجع أي هجوم بيزنطي واضح على العباسيين في مصر في تلك الفترة من الزمن. هذا، و أيضاً، لم تكن أيدي العرب على مصر بيضاء أبداً. و الكتب تمتلئ بتلك الوقائع.

الختام

بالرغم من معرفتنا بأن العصر العباسي الأول كان عصر زهو علمي و تجاري و تمدد جغرافي إلا أن هناك الكثير لا نعرفه عنه. و الدليل على ذلك هو التضارب الكبير جداً في الروايات الأجنبية و العربية بينها وبين نفسها و بين حتى روائييها. الآثار لم تساعدنا كثيراً حتى الآن في فهم ما حدث و سيظل ذلك التضارب قائماً طالماً نعتمد على روايات. بعد زمن العباسيين، طالت مصر سلسلة طويلة من حرق العلوم و المكتبات و السطو على آثار الحضارة حتى الوجود الفرنسي-البريطاني مروراً بالعثماني.

إذن حُرقت مكتبة الإسكندرية العظمى 6 مرات و ليس 3 مرات أبداً. و عبر 2500 سنة ظُلمت فيها مصر و حضارتها العظيمة ظُلماً كبيراً منذ قبل التاريخ و نُهبت و قُمِعت و إضطُهدت و سُرقت و حُرقت و قُتلت ألف مرة بإسم الأطماع و التعصبات و الفتوحات و الإحتلالات و الغزوات. كان المصريون على شفير الإنقراض من التاريخ أكثر من مرتين. قامت شعوب غوغاء عدّة بتحريف العقيدة المصرية و تزوير كتاباتها و سرقة علومها و نسبها لهم و إختفت موسوعات و برديات و كتب و إختراعات و تكنولوچيات علمية مصرية يشيب لهول علومها و عبقرياتها الشعر. سرقها من سرقها،  و نحن نعرف من هم بالتفصيل، لنصل إلى عصرنا هذا و معنا القليل جداً من ما كتبنا و إخترعنا و إكتشفنا.

و في كتابي القادم أكثر من ذلك ... و لنا حديث آخر عن مصر العظيمة قريباً.
 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة