حين يكتب الشاعر الكبير محمد فريد أبو سعدة نصا مسرحيا ويخرجه المخرج الكبير ناصر عبد المنعم فلابد تتوقع عملا جميلا ومدهشا. هذا ما رأيته علي خشبة مسرح الغد. مسرحية «سيد الوقت» التي يثير عنوانها السؤال. من هو سيد الوقت أو من هو سيد الزمن ؟ ذهبت لأجد نفسي أمام موضوع هو محنة شهاب الدين السهروردي، أو كما يعرف في التراث الفلسفي الإسلامي بالسهروردي المقتول تمييزا له عن غيره ممن يحملون اسم السهروردي. واحد من الفلاسفة والمتصوفة الكبار في عصر صلاح الدين الأيوبي رأي مثل غيره أن الروح وتجلياتها هي الحياة ،وأن الجسد فان ، وأن تفسير القرآن الكريم لا يكون ظاهريا - بظاهر الكلام - وإلا انتهينا إلي تشبيه الله وتجسيده والله لا يراه أحد ويملأ الكون. السهروردي مثله مثل الجعد بن درهم لايريان مثلا أن الله كلم موسي تكليما باللسان لكن أوحي إليه وأن يد الله فوق ايديهم لاتعني ان له يدا وجسدا وإلا صارت له حدود. وهكذا. مسألة شغلت الإسلام والمسلمين. أطلق أهل الظاهر علي من خالفهم بالباطنية واستطاعوا اقناع السلاطين بقتلهم. الحلاج والسهروردي والجعد بن درهم المشار اليه وغيلان الدمشقي وغيرهم. السهروردي الزاهد في كل شيئ. يثير وجوده في مدينة حلب التي يحكمها ابن صلاح الدين الأيوبي غضب شيوخ السلطان ويرون فيه كما رأي مثلهم من قبل في غيره اعتداء علي الثوابت المتعارف عليها دينيا وزعزعة الاستقرار القائم علي الخضوع للحاكم. إبن صلاح الدين يعجب به لكن شيوخ السلطان لايعجبون ، ويرسلون إلي صلاح الدين الذي مثل أي سلطان في تاريخ الإسلام - وهذا شيئ مؤسف - يري في مثل السهروردي زعزعة لحكمه وهكذا يطلب من إبنه أن يقتله بنفسه. وهنا الدراما القاسية فالشاب معجب به لكن يلتمس لنفسه العذر في أن السهروردي لم يقنعه حتي الكفاية ويقتله ويبدو موزعا في ألم شديد بين إحساسة بالذنب وبين إقناعه لنفسه بما هو ليس حقيقيا. وتنتهي المسرحية وينضم السهروردي إلي من قتل قبله ومن سيقتل بعده ويستمر شيوخ السلطان في ترسيخ حكم الخضوع للحاكم وعدم التفكير وكره الفلسفة التي يرونها عملا من عمل الشيطان. المسرحية التي تطلعنا علي كم يكره السلاطين وشيوخهم إطلاق الحرية للعقل تبدأ بشاب يحمل كتابين أحدهما لفرج فودة والثاني لنصر حامد أبو زيد ويسأل نفسه في تنازع روحي لماذا حقا يحب هذه الكتب التي جعلته غريبا بين من لايحبون التفكير. ويختفي من المشهد لتبدأ حكاية السهروردي. وهكذا في لفتة بارعة نري الحاضر موصولا بالماضي. والمسرحية كلها لفتات بارعة في الإخراج الذي تراه علي مستويين. الأول أمامك والثاني وراءه من خلف ستار شفاف. يكون السؤال أمامك أحيانا والإجابة بعد الستار. يكون الحدث أمامك وخلف الستار ايقاعات رقص هادئة فالرقص طريق للفناء عند الصوفية. أي زوال الجسد وارتفاع الروح. وهكذا تري وقت المسرحية قصيرا جدا قياسا علي أحداثها فالمخرج الكبير ناصر عبد المنعم يجسد الأحداث أكثر مما يترك للنص أن يحكي. متعة بصرية رائعة وأداء جميل من الجميع وإضاءة وموسيقي تناسب الحالة الروحية للشخوص والأحداث وتكتشف في النهاية أن سيد الوقت هم المفكرون الذين لم ينقطعوا حتي عصرنا ، وسيد الوقت هم شيوخ السلطان الذين لايتركون فرصة للعقل ابدا بحجة ثوابت الدين رغم أن العقلاء يفكرون ولايخرجون علي الدين ، وسيد الوقت هو الحاكم الذي يري في شيوخه وفي ثبات الأحوال طريقه لسيادة وإخضاع رعيته. تحية لكل من ساهم في ميلاد هذه المسرحية ولمدير مسرح الغد علي هذا العمل الذي طبعا لن أطلب التجول به في الجامعات وأرجو من الله أن يستمر.