إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

التنقيب عن الدهشة

إيهاب الحضري

الخميس، 16 ديسمبر 2021 - 06:00 م

فى ذاكرة كل منا علاقات حب وصداقة وزمالة لفظتْ أنفاسها، وبعد سنوات طويلة من الانتعاش دخلت غرفة الإنعاش دون أن تُفلح محاولات إنقاذها!
 

بخط اليد.. وعلم الوصول


الأحد:


حنينى للقاهرة القديمة مُزمن، غير أنه فقد قُوته المُحرّكة على ما يبدو، بدليل أننى تراجعتُ أكثر من مرة عن زيارتها، رغم أنها لا تبعد كثيرا عن مساراتى اليومية. الواقع اللاهث يفرض سطوته، فيسلبنا أعز ما نملك: الإقدام على ممارسة البهجة.

فى حوارى الحسين والجمالية عادة ما أشعر بسعادة استثنائية، المشكلة حاليا أن التقاط بعض ثمارها يظل مشروعا مؤجلا، لا يتحقّق إلا بفعل أمر مُلح، وعادة ما تأتى الزيارة عابرة، لا تروى ظمأ فراق صار يتمدّد. 


اليوم نجح صديقى الكاتب الصحفى طارق الطاهر رئيس تحرير أخبار الأدب السابق فى اجتذابى لأحد أماكنى المُحببة. توقفت السيارة بجوار الجامع الأزهر، مررتُ أمامه متجها إلى تكية محمد بك أبو الذهب، المجاورة لمسجده المُعلّق والمُغلق دائما. هنا متحف نجيب محفوظ، وسط الزحام يبدو وحيدا قد لا يعرف المحيطون بوجوده، فى غمرة انشغالات تطغى على كل شىء، وسياحة متراجعة بفعل فيروس شرس، وحتى لو رحل الفيروس ستظل المنطقة مجرد قبلة لزيارات قصيرة، تنظمها الشركات للسائحين وتقتصر على منطقة خان الخليلى فقط، دون اهتمام بآثار تملأ المكان وتجعله واحدا من أكبر المتاحف المفتوحة فى  العالم.


استضاف متحف نجيب محفوظ معرضا فريدا، يضم صور إهداءات على كتب تلقاها أديب نوبل من معاصريه وتلاميذه، إنها واحدة من أفكار طارق، التى أفرزت عدة كتب وأثمرت عن فوزه بجائزة دبى للصحافة الثقافية العام الماضى. أعترف أننى لم أتحمس لبعض هذه الأفكار فى مناقشاتنا الأولى، لكن المُنتج النهائى جعلنى أدرك خطئى، بعد أن نجح الطاهر فى استخراج الكثير من الأسرار، سواء فى كتابه عن الملف الوظيفى لنجيب محفوظ، أو فى استعراضه للإهداءات الكثيرة، خاصة أنه لم يكتف بالمادة الجامدة، بل بدأ حملات تقصى حقائق عديدة، تتبّع فيها خيوطا وكشف فى بعض الأحيان مفاجآت لم ينتبه إليها حتى المقربين من نجيب محفوظ. 


ضم المعرض صورا لنماذج من الإهداءات، كتبها عمالقة المبدعين مثل محمود أمين العالم، سهير القلماوى، توفيق الحكيم، زكى نجيب محمود، مصطفى أمين، ثروت أباظة، صلاح عبد الصبور.

الأسماء تفوق القدرة على الحصر، غير أن هناك إهداءين لا ينتميان إلى عالم الأدباء، الأول من جيهان السادات والثانى من المشير أبو غزالة، الذى كان حريصا على أن يُهدى محفوظ نسخة من كتابه «تاريخ فن الحرب».


تظل الإهداءات المعروضة مجرد أمثلة، تتيح لكل من يشاهدها استنتاج الدلالات، لكن قراءة كتاب «بخط اليد وعلم الوصول..

تاريخ جديد للسيرة المحفوظية» ستمنح المشهد إضاءة أكبر، عبر رحلة قام بها طارق الطاهر، وغاص خلالها فى دهاليز عالم خفى، واستخرج منها الكثير من الخفايا، ليؤكد أن المنابع لا تجف، إنها فقط تنتظر الباحث الدؤوب الذى ينجح فى استنطاقها.


تعديل مسار


الاثنين:


أتابعها عبر شاشة إحدى الفضائيات. يجتذبني أداؤها الذى يتسم بالسلاسة..

العميقة. بالتأكيد لدينا الكثير من الفنانين المُتميزين، لكنها تظل حالة استثنائية من وجهة نظرى. بداية رحلتها كانت توحى بمسار مختلف تماما، حيث انطلقت بأغنية اعتبرها الكثيرون مداعبة لغرائز الشباب، ثم خاضت تجربة السينما بفيلم تجارى، بدا حضورها فيه باهتا بأداء يقف على حافة الفشل الفنى. غير أنها تدريجيا بدأت تتألق، لتُثبت أن موهبتها كانت تحتاج فقط لمن يساعد فى التنقيب عنها.


تنساب مشاهد مسلسل «أهو ده اللى صار» أمام عينىّ. سبق أن تابعتُه عند عرضه الأول، واجتذبنى ببنائه المُحكم عبر السيناريو غير التقليدى، وأداء ممثليه بالغ التميز، وقدرة مُخرجه على صناعة الدهشة. كان دور الفنانة روبى جاذبا لى، ليس لأنها الأكثر براعة بين فريق العمل، فكلهم كانوا مبهرين، غير أن مقارنة ما أراه بمرحلة البدايات جعلتنى احتفى ببطلة العمل.

قبلها بيومين تابعتُ فيلم «سكوت هنصور» للراحل الكبير يوسف شاهين.

لم يكن أداء روبى فيه لافتا للنظر، غير أن ميزة تعاملها مع المخرج العبقرى تمثلتْ فى تجاوُزها مرحلة الأداء الباهت، بعدها بدأتْ فى الانطلاق عبر أدوار جعلتنى أتعجب من طاقة تمثيلية هائلة كانت مُختفية، وربما لا تعرف بوجودها إلى أن التقت بمن يستطيع استخراجها.

تؤدى أدوارها ببراعة تُقنعنى، سواء كانت خادمة أو سيدة أرستقراطية، لا تهتم بتألّق ملامحها الجمالية فالدور هو ما يفرض سيطرته، لتُثبت قدرة الإنسان على التحكُم فى مساراته، وعدم الاستسلام لبريق شهرة يضرب الموهبة فى مقتل.

أتذكر فنانا شابا شهيرا مثيرا للجدل، عانى فى بداياته رغم موهبته، وعندما امتلك كل وسائل الانتشار نسى الفن الحقيقى، وأصبح مُغرما بالظهور حتى لو حدث ذلك عبر مُشكلة فأتيقّن أن العقل زينة، لكن هناك من يرفض التزيّن به، لمجرد أن يروى ظمأ سنوات عجاف عاشها فى بداياته، والغريب أنه لا يفكر أبدا فى تعديل مساره.


زندقة ابن إياس!


الثلاثاء:


المهتمون بالتاريخ يعرفون ابن إياس جيدا، ويعتبره البعض أعظم من وثّق التاريخ المملوكى، استعنتُ بكتابه الفريد «بدائع الزهور فى وقائع الدهور» فى كتاباتى، وانتقدتُ تناقضاته وعدم دقته فى رصد بعض الأحداث، والتمستُ له العُذر فى خرافاته عن تاريخنا الفرعونى، فقد كان معذورا مع معاصريه وسابقيه، لأن حضارتنا لم تكُن قد كشفتْ أسرارها بعد، كما أن منهج التأريخ المتعارف عليه فى أزمانهم، كان يُلزمهم بالانطلاق فى تأريخهم من بدء الخليقة.

بطريقته المخابراتية أدرك «فيس بوك» اهتمامى بالرجل، فأخذ يحاصرنى بإعلانات عن كتابه الشهير.

اليوم تحديدا فكرتُ أن أطالع التعليقات على إعلان عنه، كى أتعرف على المهتمين به وتوجهاتهم. الغالبية يسألون عن السعر، لكن تعليقا غريبا نجح فى استفزازى، كتب صاحبه: «هذا كتاب باطل يصف أنبياء الله بالفسق والزنا وشرب الخمور، مأخوذ من عقيدة اليهود»، لم أشعر بالدهشة، فقد اعتدتُ على من يدعون أنهم قرّاء ويعتمدون فى أحكامهم على السمع لا القراءة، لكنى غضبتُ من مزاعم الرجل الذى وصف نفسه بالشيخ، أى انتقاد آخر لابن إياس قابل للطرح، لكنه لم يكتب حرفا فى كتابه مما ذكره الشيخ المزعوم، الذى لم يمنح نفسه فرصة التحقق قبل الانتقاد. إنها منصات التواصل التى فتحت الأبواب على مصراعيها للمُدعين، وزادت علينا وطأة الضغط والسكّر.


للصبر حدود!


الأربعاء:


نصبر حتى يفيض بنا الكيل، وغالبا لا نتعلم من الدرس، فقد نُلدغ من الجُحر نفسه أكثر من مرة دون أن تصقلنا التجربة، ربما لأننا مؤمنون بعقيدة الحنين، هنا يصبح العتاب حيلة العاجز «أكتر من مرة عاتبتك..

واديتلك وقت تفكر، كان قلبى كبير بيسامحك إنما كان غدرك أكبر».

الأغنية التى تشدو بها أم كلثوم أمامى عبر الشاشة الصغيرة، تتحدث عن عاشق موجوع من طعنات غدر قهرتْ قدرته على الاحتمال، غير أن مثل هذه التقلبات ليست قاصرة على الغرام، بل تمتد إلى كل العلاقات فى حياتنا. فى ذاكرة كل منا علاقات حب وصداقة وزمالة لفظتْ أنفاسها، وبعد سنوات طويلة من الانتعاش دخلت غرفة الإنعاش دون أن تُفلح محاولات إنقاذها!

يتعجب البعض من صداقات انتهت رغم امتدادها لسنوات، وقصص حب كتبتْ شهادة وفاتها بعد أن ظنّها البعض خالدة، وشركاء سياسيين مُزمنين فضّوا تحالفاتهم وانقلبوا أعداء، وشعوب أعلنت الثورة بعد أن كانت تُغنى لحكامها. النهاية واحدة رفعت شعار «للصبر حدود». 


عند نُقطة فاصلة يصبح «تخفيف الأحمال» فرض عيْن كى تستريح قلوب أرهقها الكذب: «ما تصبّرنيش ما خلاص أنا فاض بيا ومليت»، وعندما يفيض الكيْل يُصبح فصل الختام مرهونا بقشّة تُرجّح كفّة البُعد، ولسان حال أى منا يقول: «القرب قساه ورانى البُعد ارحم بكتير».

تداعيات أفكار عديدة تتابعت وأنا أستمع للأغنية. الصُدفة وحدها قادتنى إليها تلك الليلة، بينما كنتُ أتجه لها بإرادتى قبل سنوات، عند كل مُنعطف عاطفى يتطلب اللجوء إلى الخبراء، ومن بينهم الشاعر الكبير عبد الوهاب محمد، الذى عبّرت كلماته عما يجول فى خواطرنا مع كل تجربة أتلفها الهوى.

تبدو المعانى أشبه بشعارات ثورية نحتاج إليها لدعم ميادين قلوبنا، بهتافات التمرد على الحبيب بدلا من اجترار آهات الوجع.


كثيرا ما يلجأ لى عاشقون وعاشقات يبكون أحوالهم، يروون قصصا مليئة بالوجع، أعرف بحكم فارق السن والخبرة أنهم غير ملومين، فمن يُحب يختلق التبريرات بسذاجة مفرطة، ليس لأنه متسامح، بل كى يتجنب كسْرة القلب، وفجأة يكتشف أن «الحب الصادق عمره ما يحتاج لكلام»، وأن مخزونه من الصبر انتهى. يدخل مرحلة البكاء على أطلال سنين ضاعت فى هواه، وربما يلعن غباءه دون أن يعرف كيف يتخلص منه: «واهى غلطة ومش هتعود..

ولو ان الشوق موجود وحنينى ليك موجود».

إنه الجنون الذى يعْقُب العاطفة!
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة