د.كمال مغيث يكتب :طه حسين فى حفلة تنكرية
د.كمال مغيث يكتب :طه حسين فى حفلة تنكرية


كمال مغيث يكتب: طه حسين في حفلة تنكرية

أخبار الأدب

السبت، 18 ديسمبر 2021 - 03:22 م

الأزهر بناه الفاطميون ليكون جامعهم بمدينة القاهرة عاصمتهم التى شرعوا فى بنائها بمجرد أن فتح الله عليهم مصر، وشهد الخليفة المعز لدين الله أول خطبه له فيه فى الجمعة الأولى من شهر رمضان سنة 972م، وأصبح الجامع بعدها مركزا لنشر الفقه الشيعى، وشهود المناظرات بين علماء السنة وعلماء الشيعة، وظل الأزهر جامع القاهرة حتى خطب فيه صلاح الدين للخليفة العباسى «المستضئ بأمر الله» سنة 1171م، إيذانا باسقاطه للخلافة الفاطمية، وفى سعي صلاح الدين لإبطال مذهب الفاطميين والقضاء على رموزهم وصورهم، فإنه قد أغلق الجامع الأزهر وتحول بالخطبة لجامع الحاكم بأمر الله،

وسقطت الدولة الأيوبية سنة 1250 بتولى «شجر الدر» الحكم وقيام دولة المماليك، وفى سنة 1266 ورغبة من السلطان الظاهر بيبرس البندقدارى (1260-1277)، لإضفاء الشرعية على حكم المماليك فإنه قد أعاد فى مصر الخلافة العباسية بعد أن اسقطها هولاكو والمغول 1258، وأعاد الجمعة إلى الأزهر، وعلى الرغم من أن بيبرس وعديد غيره من سلاطين المماليك قد بنوا مساجدا عظيمة تفخر بها القاهرة، فإنهم قد حفظوا للأزهر مكانته المركزية، ووسعوا فى بنائه وأقاموا داخله ثلاث مدارس جديدة (الطيبرسية والأقبغاوية والجوهرية) وقام بالتدريس فى الازهر عبد الرحمن بن خلدون (1332- 1406)، وابن حجر العسقلانى(1372- 1449)، وكان السلطان قايتباى (1467- 1496) أول من نظم فيه الأروقة لإقامة طلاب العلم - اللذين أطلق عليهم الناس «المجاورين» - من الأجانب وبدأ برواقى الأتراك والشوام، وفى نهاية زمن المماليك مطلع القرن السادس عشر كان عدد هؤلاء المجاورون يزيد عن ألف مجاورا


وفى زمن العثمانيين زادت مكانة الأزهر وأرتفع شأنه فالدولة العثمانية التى تحكم إمبراطورية شاسعة أغلبها من بلاد الإسلام، فقد أصبح الأزهر هو الجامع المركزى فى تلك الإمبراطورية بعد تدهور مكانة جوامع سلاطين المماليك

وشجعت فكرة انضواء معظم بلاد المسلمين تحت نظام سياسى عثمانى واحد رحيل طلاب العلم من شتى بقاع العالم الإسلامى لتلقى العلم فى الأزهر، ويمكننا القول أن الأزهر مثل فى زمن العثمانيين كوزموبوليتانية إسلامية فريدة، ولم يكم على طالب العلم الذى يريد التعلم فى الأزهر، سوى أن يحمل «صرة» ملابسة ويأخذ طريقه قاصدا الأزهر ليجد المأوى والطعام «الجراية» التى كانت تتسع وتثرى أحيانا فتشمل: الخبز والمرق واللحم وبعض الدنانير والكسوة، أو تضيق أحيان أخرى فلا تزيد على رغيفين «حاف» فى اليوم، ولتنظيم شؤون الأزهر طلابه وشيوخه وأوقافه وحلقات العلم فيه أنشأ العثمانيين منصب شيخ الأزهروتولاه «الشيخ الخرشى» سنة 1679

 
وقد وصل عدد أروقة الأزهر فى أوجها إلى خمسين رواقا، يسكنهم نحو ثلاثة آلاف طالب، ثلثهم من الأجانب، فى أروقة: الجاوة والهنادوة والأفغانية والأتراك والحرمين والجبرت والمغاربة والسودان والتكارنة والشوام والبوسنة وبقيتهم من المصريين، فى أروقة: البحاروة والصعايدة والفشنية والفيمة والشراقوة وغيرها (وقد استمرت الأروقة بالأزهر حتى سنة 1954، حيث أنشئت مدينة البعوث الإسلامية) وقد درست فى الأزهر مختلف العلوم الدينية وعلى رأسها الفقه على المذاهب الأربعة، وعلوم اللغة العربية

 

وكان لشيخ الأزهر أن يطلب نقل بعض حلقات الدرس إلى الجوامع الكثيرة فى القاهرة، كجامع أبو الدهب أو الغورى أو الماس الحاجب، وإن كانوا متحفظين من نقلها إلى بعض مساجد آل البيت

طه حسين والأزهر

 


وكانت حرية الطلاب مطلقة فى تعليم الأزهر، فعلى الطالب أن يعرف اسماء الشيوخ المعلمين أصحاب الأعمدة، والعلوم التى يدرسونها والكتب التى يقرأونها، وموعد حلقته، ويختار حرا من كل هذا ماريد، ويختار بعد كل هذا الموعد الذى يطلب إلى الشيخ إجازته فيه، وكانت بعض حلقات هؤلاء الشيوخ عظيمة هائلة يتزاحم فيها الطلاب والناس من خارج الأزهر، إذا كان الشيخ ظريفا لبقا حلو الحديث تتخلل قرائته الطرف وأبيات الشعر والحكم، بينما كان بعضهم يجلس إلى عموده طيلة النهار فلا يظفر بطالب واحد، وكان الطالب يحصل على الشهادة التى كانت تسمى وقتها «الإجازة» بأن الطالب من شيخه تلك الإجازة، سواء بالإفتاء على مذهب من المذاهب أو بتدريس علم من العلوم الدينية أو العربية، فيضرب له الشيخ موعدا منفردا أو بصحبة بعض الشيوخ أو فى مقدمة حلقة درسه، ويروح الشيخ يسأل الطالب فى دقائق العلم، وتفاصيله وألغازه.

ويصنع له بعض المشكلات ويطلب حلها، فى وقت يطول أو يقصر حيث، أو يطلب استكماله فى جلسة ثانية وقد لا يقتنع الأستاذ الشيخ بجدارة تلميذه بنيل الإجازة ويطلب إليه الاستمرار فى حضور الدروس سنة جديدة، وقد تفاوت الأساتذة فى درجة تسامحهم فى منح الإجازات تفاوتا كبيرا، فمنهم - كما يقول المؤرخين – من لم يجز فى حياته التدريسية كلها عدد يتجاوز أصابع اليد الواحدة من طلابه، وكان يمر العام والأعوام وهو لم يجز طالب علم وأحد، ومنهم من كان سهلا حتى يعلن إجازته جميع طلاب حلقته جميعا،بلا سؤال ولا مراجعة، ثم يتزاحم الطلبة عليه بعد ذلك للحصول على الشهادات التى تحمل اسمائهم وإجازاتهم.

باب فى القاهرة للفنان: كارل أوسكار بورج


وكانت للإجازات نسقا متقاربا، يبدأ بالبسملة والصلاة على الرسول، وذكر آدم واستخلافه وعمارة الأرض وإرسال الرسل، ثم يدلف إلى العلم الذى يقوم به وفضله وأهميته فى حياة الناس، ويواصل: ...

وقد طلب منا الأريب الفطن الديّن المجتهد الذى واظب على حضور حلقتنا ردحا من الزمن وكان مثالا للاستقامة والجد والاجتهاد: فلان بن فلان بن فلان، من ناحية كذا، إجازته بالإفتاء (أو بالتدريس) فى كذا

وبعد مدارسة ومناظرة ومناقشة كان فيها راسخ البيان قوى الحجة ثابت اليقين عارفا بالدقائق، ملما بالأصول وبالفروع و....و...، ولذلك فقد أجزناه للإفتاء على مذهب الإمام كذا وتلاميذه المعتبرين، كذا.. أو تدريس كذا، ونرجوه ألا يعتبر تلك الإجازة غاية الأرب ونهاية الطلب، وإنما يداوم على طلب العلم ما وجد إلى هذا الطلب سبيلا، والذى هو فريضة على كل مسلم كما حدثنا المعصوم «صلى الله عليه وسلم» وندعوا الله أن ينّفّع به وبعلمه وألا يبذله إلا فى رضوان الله وابتغاء مرضاته، ونفع خلقه، وألا ينسانا من صالح دعائه.........التاريخ .. اسم الشيخ .. ختمه البدايات


عندما ولد: طه حسين على سلامة فى 14 نوفمبر سنة 1889، كان الإنجليز قد قضوا فى مصر بعد احتلالها سبع سنوات قضوا فيها على منافذ التعليم الحكومى المجانى أمام الفقراء، وأصبح التعليم كله بالمصروفات، كما قضوا على إمكانية عمل مشروع قومى لنشر التعليم كما شهدت أواخر عصر إسماعيل، ولذلك لم يعد أمام الفقراء إلا الكتاتيب لحفظ القرآن.

وتعلم مبادئ اللغة والحساب، ثم الأزهر لمن يود مواصلة تعليمه وكان طه حسين واحد من هؤلاء الذى كان أبوه يحدثه: هل أعيش حتى أراك شيخ عمود فى الأزهر؟، وكان قد سبقه إليه أخ أكبر من إخوته كانت القرية كلها تنتظر مقدمه فى إجازة الصيف ويفاخر به أبيه، وينوب عن شيخ الطريقة الصوفية فيركب فرسا أبيضا يطوف بالبلدة فى موكب هائل وحوله البيارق والطبول وحاملى البخور، كل هذا صار مثلا أعلى عند الصبى، كما كان فى نفس الوقت يخشى من تهديد أبيه بأن يبقيه فى القرية يقرأ القرآن فى المقابروالبيوت إذا قصر فى حفظ القرآن، وبعد أن أتم حفظه كان يحدث نفسه: «أنه لا ينبغى أن يثق فى وعود الرجال» قاصدا أبيه، إذا انتهت الأجازة ولم يصحب أخيه إلى الأزهر، حتى زف أبيه إليه بشرى سفره إلى الأزهر بعد أن فصل له «جبه وكاكولة» وهكذا شعر الفتى بأن آماله قد تحققت وأن الدنيا قد دانت له، والقطار يحمله إلى القاهرة فى خريف سنة 1902،

وفى الغرفة التى تضمه مع أخيه وضع طه حسين فى ركن منها كما يوضع الشئ –على حد تعبيره- على حصير وضع عليه بساط قديم، وقلبه معلق بالأزهرأسبوع أو أسابيع، حتى دعاه أخيه ذات صباح لمصاحبته لدخول الأزهر فيقول: خلع نعليه وخالف بينهما وخطى الهوينا على تلك الحصر البالية المبسوطة التى تنفرج عما تحتها من الأرض كأنها تتيح لأقدام الساعين عليها أن تنال «البركة» بلمس هذه الأرض المطهرة

وراح الفتى يحضر حلقات الشيوخ فى الأزهر فيرضى حينا ويسخط أحيانا، يرضى إذا كان الشيخ لطيفا عميقا واسع الصدر طويل البال يسمح لطلابه بالتساؤل والتعبير والاختلاف، ويسخط إذا لم يكن يفعل الشيخ الأستاذ شيئا سوى قراءة كتابه المقرر، فيبدأ درسه : قال المؤلف رحمه الله ثم يروح يقرأ الصفحات دون توقف حتى ينتهى إلى موضع عينه قائلا: انتهى، ويسخط إذا كان الشيخ عنيفا ضيق العطن لا يسمح بسؤال ولا مناقشة، وكان القبول فى الأزهر بلا أى مصروفات، وإنما يشترط الذكورة والبلوغ وحفظ القرآن الكريم،

وترك يوم امتحانه فى حفظ القرآن فى نفسه جرحا غائرا، فبينما ينتظر دوره سمع هذا الصوت الغليظ لشيخ من لجنة الامتحان ينادى: «أقبل يا أعمى» وكان هذا الوصف أشد مايكرهه الصبى فتجهم وغضب حتى أخذ أخوه بيده ليضعه أمام اللجنة ليفاجأ بامتحان تافه يسير يكتفى فيه بترديد الآيتين الأوليتين من سورة الكهف وسورة العنكبوت، وأعاد الصوت الكريه الكرة وهو يقول للصبى: اذهب يا أعمى فتح الله عليك

 

ومع هذا واظب الصبى على حضور ما يحب من الدروس وكانت المواد التى تدرس بالأزهر أربعة مواد أساسية هى الفقه والتوحيد والمنطق والنحو كان لابد للطلاب جميعا من الحضور فى حلقة منها، وكانت هناك مواد ثانوية هى: الحديث والتفسير وأصول الفقه والبلاغة والأدب والقراءات وطبعا لكل مادة من هذه المواد كتبا متعددة تتراوح بين الصعب والعميق والذى لا يقدر على تدريسه أو دراسته إلا أولى العزم من الشيوخ والطلاب، وماهو سهلا ويسيرا يسيغه اى طالب، والكتب تلك يشتريها الطلاب من دكاكين الوراقين حول الأزهر.


وانتهت السنة الأولى للصبى فى الأزهر فعاد فى الصيف إلى قريته وقد اكتسب ثقة شديدة فى نفسه ولم لا وقد أصبح رسميا من «المجاورين» الذين يعرفهم الناس فى القرية ويكبرونهم، وبعد أن إنتهى أبيه من صلاته راح ككل الصوفية يقرأ بصوت عال من «دلائل الخيرات» وهو أحد أوراد الصوفية التى ألفها صوفى مغربى منذ ستة قرون، فاستمع طه حسين مليا ثم قال لابيه: إن ما تقرأه فى الدلائل عبث لا غناء فيه، فرد أبيه غاضبا: أهذا ما تعلمته فى الأزهر؟ فقال بثقة: نعم، وتعلمت أيضا أن كثيرا مما تقرؤه فى دلائل الخيرات حرام وتضر ولا تنفع، وأن التوسل بالأنبياء والأولياء فهو لون من الوثنية»، وراح يردد رأيه الغريب فى غير مكان، حتى راحت تتعجب من هذا الصبى الغريب والمتمرد بين الرضى والغضب.


وعاد الصبى للأزهر فى العام التالى ليواصل درسه والانتظام فى حلقاته، وعموما فقد كان عدد الطلاب كبيرا بحيث يضيق بهم الأزهر فكانوا يتلقون دروسهم بالإضافة للأزهر فى مسجدى محمد بك أبو الدهب إلى الغرب من الأزهر ومسجد الشيخ حسن العدوى إلى الشمال منه.


كانت حياة المجاورين جميعا شديدة الفقر، بل لقد استقر فى أذهانهم جميعا بأن الفقر هو الشرط الأول لتحصيل العلم والاجتهاد وأنه لا تستقيم بلهنية العيش ورغده مع طلب العلم، فكانوا يأكلون وجبتين فقيرتين يوميا - كما سنرى -، أما الوجبة الساخنة: وجبة اللحم مع البطاطس أو القرع والمرق، فكانت وجبة وحيدة عصر الجمعة من كل أسبوع، فيقول الفتى أنه وابن خالته كان يدبران أمرهما ليوم كامل بقرش واحد مع الأربعة أرغفة، نصيبهم من جراية الأزهر، يشتريان بمليمين ونصف سلطانيتين عميقتين من الفول النابت بالزيت وبنصف مليم حزمتين من الكراث

وفى العشاء إذا بقى لهما نصف القرش اشتريا بنصفه حلاوة طحينية ونصفه الآخر شرائح من الجبن رومى أما إذا كانا قد اسرفا على انفسهما فلم يبق لهما غير ربع القرش اشتريا به شيئا من الطحينة وصبا عليها شيئا من عسل أسود أو أبيض كان يأتيهما مع الزوادة من الصعيد، أما إذا كانت قد جارت البليلة أو البسبوسة على مابقى لهم من القرش فلم يكن أمامهم سوى رغيفا الجراية والعسل.


ويستأنف الفتى حياته فى القاهرة، وهو بين الرضى عن بعضها والسخط على بعضها الآخر، فكان مما يرضى عنه حضور أخيه الكبير لدروس «الأستاذ الإمام» الشيخ محمد عبده الذى غضب عليه الخديوى فطرده من الأزهر ولم يحرك شيوخ الأزهر ساكنا لحماية الرجل مما آلم الفتى، وراح بعض النابهين من الطلاب يقصدون درسه فى منزله ويتحدثون عنه بكل التوقير والمحبة وكان الفتى يتمنى لقاءه لولا سنة الصغير، وسرعان ما مات الإمام مبكرا سنة 1905، فلم يحزن لموته الأزهريين وربما كان المطربشين أشد حزنا لخسارة الإمام المجدد.


وكان من الشيوخ الذين أحبهم الفتى الشيوخ: بخيت وسيد المرصفى وعبد الله دراز وأبو خطوة، ولكن معظم شيوخه كانوا قساة غلاظ ضيقى الصدر، وسأذكر هنا بعضا من مواقف الفتى مع الشيوخ فى سنواته الست التى قضاها منتظما فى الأزهر، ففى درس البلاغة يسمع من شيخه: «لكل كلمة مع صاحبتها مقام»، فأراد الغلام مناقشته فقال الشيخ: دع عنك هذا يابنى فإنك لا تحسنه وإنما تحسن هذه القشور التى تقبل عليها فى الضحى، فأما اللباب فلم تخلق له ولم يخلق لك» وضحك الشيخ وتضاحك الطلاب ووجم الغلام، وأما تلك القشور فقد كانت كتاب «الكامل» للمبرد.

 

وشيخ آخر يفسر تنكير الرضوان فى «ورضوان من الله أكبر»، فناقشه الغلام فقال الشيخ: أسكت يا بنى وقانا الله شرك وشر أمثالك اتق الله فينا ولا تشاركنا فى هذا الدرس فتفسد علينا أمرنا».


وهاله أن يقول شيخ كبير فى درس الأصول عن الزوج وزوجه: فإذا قال لها: أنت طلاق أو أنت ظلام أو أنت طلال أو أنت طلاة، وقع الطلاق ولا عبرة بتغيير اللفظ»، وذاك الشيخ الذى لا يكاد يسأل حتى يشتم فإذا ألح السائل لم يعفه من لكمة فى وجهه إذا كان قريبا من مجلسه، أو برمية من حذاءه إذا كان بعيدا وكان حذائه جافيا غليظا ملئت نعله بالمسامير، وفى درس النحو فسر الشيخ بيت شعر لتأبط شرا: فأبت إلى «فهم» وما كدت آئبا .. وكم مثلها فارقتها وهى تصفر.


سأله طه حسين عن مرجع الضمير «هى» فقال الشيخ: إنك وقح وقد كان يكفى أن تكون غبيا، فرد طه حسين: ولكن هذا لا يدل على مرجع الضمير، فرد الشيخ: إنصرفوا فلن أستطيع أن أقرأ وفيكم هذا الوقح، وأوشك الطلاب أن يفتكوا بالفتى لولا أن أشهر زملاؤه من أهل الصعيد نعالهم لحمايته

 

وفى درس آخر وكتاب آخر لشيخ من الشرقية أخذ طه حسين يجادل الشيخ حتى قال: لن أمضى فى الدرس حتى يقوم ذلك الغلام، ولم يقم الغلام ولا أصحابه إلا عندما أشهرت عليهم نعال الشرقية، ولم تكن نعال الشراقوة بأقل خطرا من نعال الصعيد


ويتفاخر أحد شيوخه الأساتذة بأنه يستطيع أن يتحدث ساعتين دون ان يفهم أحد عنه شيئا، ولا يفهم هو عن نفسه أيضا، وكان فى مجلسه من الغرفة يسمع من أخيه وزملائه كثيرا من نقائص هؤلاء الشيوخ ومعايبهم، فهذا الشيخ يتجسس على زملائه ويكتب فيهم التقارير للأمن وللمشيخة

 

وهذا الشيخ تربطه علاقة مريبة بهؤلاء الطلاب ولا يكاد يستقر على كرسيه حين يحضر أحدهم حلقته، وكانت هذه الأحاديث تثير فى نفس الفتى كثيرا من الغضب والأسى وخيبة الأمل


وأحد شيوخ المنطق والأصول يجادله الفتى ويلح فى الجدل حتى يضيق الشيخ فيقول للفتى: «أسكت يا أعمى ما أنت وذاك» فيغضب الفتى ويواجه الشيخ بحدة بالغة: «إن طول اللسان لم يثبت قط حقا ولم يمح باطلا»


وكان طه حسين شاهدا على جرأة وشجاعة أستاذه المرصفى ونقده للمناهج الأزهرية العتيقة وقد شجعه ورفيقيه على ارتياد دار الكتب وقراءة مافيها من كتب الأدب فليس هناك مايدفع النفوس للحرية والاسراف فيها مثل درس الأدب، ومع هذا فمع أزمات طه حسين مع الأزهر فوجئ به وهو يلتزم جانب الشيخ الأكبر بلا مناقشة وكان الفتى أثيرا لديه، يزوره فى بيته مع رفيقيه «الزيات والزناتى» القطيعة.


وعرف الفتى بجرأته على التقليدى والعتيق من الآراء فسأله بعضهم عن رأيه فيما كتبه الكامل فى «المبرد» ويقول: وكان مماكفرت به الفقهاء الحجاج قوله والناس يطوفون بقبر النبى:»إنما يطوفون ...»، فقال الفتى: إن الحجاج لم يكفر وإنما أساء الأدب.

 

وأنكر الطلاب ذلك، حتى فوجئ باستدعائه ورفيقيه لمقابلة الشيخ الأكبر حيث وجدوا لجنة كبيرة من الشيوخ الذين ينتقدونهم وطلاب يشهدون على آرائهم فى شيوخهم وغيرها، وكان قرار اللجنة محو اسماء هؤلاء الطلاب من سجلات الأزهر، فقصد الطلاب شيخهم بخيت المطيعى الذى كان معروفا بجرأته فى الحق، ولكنه رفض التدخل قائلا: «اسكت يا ابنى خلينا ناكل عيش» 


ولمواجهة تلك المحنة كتب طه حسين مقالا لاذعا ينتقد فيه الأزهر ومناهجه وشيخه جميعا وذهب به إلى صاحب الجريدة أحمد لطفى السيد، فقرأ المقال وفقال له: لو لم تكن قد فصلت من الأزهر لكان هذا المقال كافيا لفصلك، فإذا كنت تريد العودة للأزهر فدع الأمر لى ثم تبين للفتى ورفيقيه أنه لم يفصل ولكن الشيخ كان يهددهم فحسب، وراح الفتى بعدها يتردد على مقر الجريدة فيخالط الكثير من المثقفين والأدباء «من المطربشين» ويسمع منهم عن العلم الحديث وما يتيحه لطلابه من حرية فى مناهج الأدب والتاريخ والفلسفة وغيرها، وعرف من هؤلاء المطربشين بأمر الجامعة المصرية الأهلية، فتقدم لها ليدفع مصروفاتها جنيها كاملا فى السنة، وعلى رغم من دفع هذا الجنيه كان عسيرا على الفتى فإنه قد أحب الجامعة ومافيها من انطلاق وحرية،

طة حسين مع زوجته

 

 

ويعجب أشد العجب بدرسه الأول فيها، وكان درسا عن الحضارة الإسلامية لأحمد زكى بك، يبدأه بالسلام عليكم ويتحدث من عند نفسه لا من كتاب قديم، وأصبحت أوقاته موزعة بين ثلاث أماكن دار الكتب فى الصباح، والأزهر فى وسط اليوم، والجامعة فى المساء، ومع هذا فقد كان يقضى وقته فى الأزهر وقلبه معلق بالجامعة حتى يذهب إليها ويسمع فيها درسا عن التاريخ المصرى القديم، ودرسا بعنوان أدبيات الجغرافيا والتاريخ يلقيه بالعربية محاضرا إيطاليا.


كل هذا والفتى مستمرا فى كتابة المقالات فى صحيفتى اللواء والجريدة ينتقد فيها القديم والأزهر ومناهجه وطرقه وشيوخه، حتى أصبح اسمه معروفا فى المجال العام، وفى نحو سنة 1911م، أنشأ محمد رشيد رضا مدرسة للدعوة والإرشاد وكان حفل تأسيسها فى فندق سافواى، ورغم معارضة معظم الشيوخ والطلاب الأزهريين لتلك المدرسة ولانحياز رشيد رضا للخديوى، الخصم اللدود لأستاذه محمد عبده، فقد حضر شيخ الأزهر وكثير من شيوخ مجلس إدارته هذا الحفل وقيل أنه قد دارت عليهم كؤوس الشمبانيا وقال بعضهم بل مجرد مياة غازية، فكتب طه حسين نقدا لتلك الحفلة ضمنها أبيات شعرية من إنشاءه تقول: 


  رعى الله المشايخ إذ توافوا ... إلى سافواى فى يوم الخميس
   وإذ شهدوا كؤوس الخمر صرفا... يدور بها السقاة على الجلوس
    رئيس المسلمين عداك ذم ... ألا لله درك من رئيس            
ورغم هذا ومع ضيقه بالأزهر ومناهجه وطرائقه العتيقة، فلم يكن أمامه إلا الظفر بالعالمية ليصبح أستاذا فقيرا يأخذ أرغفة الجراية ويجلس إلى عمود بالأزهر ويحصل على خمسة وسبعين قرش إذا كانت عالميته من الدرجة الثالثة ومئة قرش إذا كانت الثانية ومئة وخمسون قرشا إذا كانت الأولى وغير ذلك فلن يكون أمامه سوى قراءة القرآن على المقابر وفى البيوت.


وقد مر الفتى بمراحل تعليمه فى الأزهر بلغت نحو عشر سنوات، وهى ثلاث مراحل: المنتسب ثم المنتظر ثم المستحق، وكان الانتساب يتم كما سبقت الإشارة بعد اختبار حفظ القرآن وقد انتسب الفتى إلى رواق «الفشنية» ويتجاوز الطالب تلك المرحلة بكتابة «عرضحال» يقول فيه أنه انتسب فى الأزهر أعوام «كذا» وحضر دروس كذا وكتب كذا، ويشهد على ذلك اثنين من شيوخ الأزهر، وهكذا انتقل الفتى إلى مرحلة المنتظرين تلك التى كان على شيخ الرواق أن يمتحنه فيها بعد أن يعين له بعض الموضوعات، ولأن شيخ الرواق كان ابن شيخ كبير ويعرف طه حسين فقد سأله ونجحه فى جلسة واحدة، وانتقل طه حسين إلى المرحلة الأخيرة التى تنتهى بحصوله على العالمية وهى مرحلة المستحقين، وفى سنة 1911 تقدم طه حسين للحصول على العالمية فذهب إلى الأزهر، وحصل على «التعيين» وهو الموضوعات التى ينبغى أن يستعد بها للجنة الامتحان الشفوى، ويقول أنه قرأ وحفظ وراجع واستعد للامتحان فأحسن الاستعداد، حتى لم يبق بينه وبين الامتحان إلا سواد الليل ليفاجئ بالشيخ سيد المرصفى يزوره فى بيته بالليل طالبا منه أن يعتذر عن حضور الامتحان فالنية قد بيتت لإسقاطه، مؤكدا له انه عضو فى اللجنة التى سوف تسقطه وهى برئاسة الشيخ:» دسوقى العربى»، فقال طه حسين ولكنى سأحضر أمام لجنة برئاسة الشيخ:» عبد الحكيم عطا»، فقال المرصفى رفض الشيخ عبد الحكيم عطا تدخل الشيخ الأكبر فى الامتحان فلن تنعقد لجنته، وذهب الفتى للجنة من صباح الغد، وسألته اللجنة السؤال الأول الذى قضى فيه نحو ساعتين ونصف لقى فيه الفتى من المناقشة أشدها.

 

ومن الجدال أعنفه، وفجأة يدخل الشيخ الأكبر (الشيخ عبد العزيز البشرى 1909-1916 «من عندى»)، ليقول لرئيس اللجنة: حرام عليك يا شيخ دسوقى إرفق به، ولكنه لم يرفق به وزاد شدة على شدة وعنفا إلى عنف، وانتهت المسألة الأولى، فقيل للفتى إذهب فاسترح، فخرج ليجد الشيخ الأكبر جالسا بباب اللجنة وكأنه ينتظر شيئا، ويطلب من أحد الشيوخ أن يأخذ الفتى ليسقه فنجانا من القهوة، وفى انتظار هذا الفنجان، يأت من يحمل محفظة الفتى إيذانا بأنه قد سقط وأن اللجنة لا تريد أن يتم مابقى له من درس.


هكذا انقطعت الصلة بين طه حسين وبين دروس الأزهر، ولم يعد يذهب إليه إلا للصلاة أوللقاء بعض أصدقائه أو من يحترمهم من شيوخه، وظل محتفظا بزيه الأزهرى «العمامة والكاكولة» والصورة التى تجمع طلاب الجامعة المصرية مع أساتذتهم، تضم طه حسين بزيه الأزهرى، وفى طريقه لبعثته إلى فرنسا سنة 1914، وعندما وصفه بعض الأجانب مرتديا زيه الأزهرى بأنه: «يحضر حفلة تنكرية»، فإنه قد استبدل البدلة بزيه الأزهرى وألقى بكاكولته وعمامته من فوق ظهر السفينة لتستقر فى قاع ذلك البحر العريض.

 

اقرأ ايضا  |الشاعر منذر مصري: استدرت عائداً للرسم!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة