الراحل القدير عبد المنعم مدبولى يتأمل بعض الجوائز التى نالها فى مشواره الفنى الكبير
الراحل القدير عبد المنعم مدبولى يتأمل بعض الجوائز التى نالها فى مشواره الفنى الكبير


«الأخبار» تضىء 100 شمعة لشارلى شابلن العرب

عاطف النمر

الأربعاء، 29 ديسمبر 2021 - 04:44 م

ترى مَن مِن الباقى من تلاميذه الذين صنع نجوميتهم تذكر أن يحتفى بمئويته أمس ؟ ومن من المؤسسات الثقافية الرسمية فى الدولة فكرت أن تحتفى بمئويته أيضا؟ أين المجلس الأعلى للثقافة المغيب عن الترتيب لاحتفالية تليق بمئوية «شارلى شابلن العرب»، وأين فرقة المسرح الكوميدى؟ وأين نقابة المهن التمثيلية؟ وأين برامج المنوعات بالفضائيات؟ الجميع غاب عن الاحتفاء اللائق والمطلوب بمئوية القدير الكبير عبد المنعم مدبولى الذى أسعد الملايين فى مصر والوطن العربى ومازال يسعدهم بما تركه لنا من أعمال تبث وتذاع.

جريدة «الأخبار» ما كان من الممكن أن تفوتها مئوية «مدبولى من خلال صفحة كنوز» فقررنا أن نضيء له الشمعة رقم «100» ونشارك أسرته ومحبيه هذه المناسبة، وأنا واحد منهم، عرفته عن قرب وارتبطت به لأكثر من ربع قرن، عرفت شخصيته الديناميكية التى تتسم بالطاقة والحيوية، وعرفته على المستوى الإنسانى الذى يتسم بالسكينة والهدوء، ابتسامته كانت لا تفارق شفتيه، إذ ما نظرت لعينيه الضيقة اللامعة وهو يرمقك بهما عندما تتحدث معه لا تملك إلا أن تضحك من قلبك، قليلًا ما يثور أو يغضب أو ينفعل بلا مبرر قوى يدفعه لذلك، فهو إذا ما غضب ترتبك الدنيا ويتوقف كل شيء حتى يعود لسكينته مرة أخرى، لكنه عف اللسان لا يخطئ فى حق أحد من زملائه أو المقربين منه فى حضورهم وغيابهم، يتسامح فى أشياء كثيرة ويلتمس الأعذار للأخرين، أستاذ فى فن الارتجال العفوى، لا يترك شاردة أو واردة دون أن يعلق عليها بما يفجر فى داخلك الضحك، يتأثر بشدة بالمواقف المأساوية التى يسمعها أو تروى له، وكان لديه قدرة عجيبة وغريبة فى أن يضحكك ويبكيك فى آن واحد، أشاعوا أنه بخيل ومقتر فى تعاملاته المادية، ومن أشاعوا ذلك لم يكتشفوا فيه جانب الحرص الشديد، حكّاء بدرجة تأسر من يستمع إليه، دبلوماسى يجيد المناورة والهروب من كل الأسئلة الصعبة التى تضعه فى حرج مع الآخرين، كان يعشق بيته وأسرته، فهو من الفنانين القلائل الذين لا يميلون للسهرات الخاصة، من بيته إلى المسرح أو الاستديوهات ومنها إلى بيته مرة أخرى، ويريد من الجميع أن يحترموا مواعيدهم معه مثلما يحترم مواعيدهم، يتواجد فى غرفته بكواليس أى عمل مسرحى قبل العرض بساعة ونصف على الأقل، يضع مكياجه لنفسه بنفسه، يعايش دوره بذهن صاف، فهو يقدس العمل والمكان الذى يعمل به ويضفى عليه من شخصيته القوية الاحترام والمهابة، تقرأ فى وجهه الفرح الطفولى عندما ينجح تلميذ من تلاميذه ويحقق الشهرة التى توقعها له، وفى نفس الوقت كان تلميذا مطيعا عندما يقف أمام واحد من المخرجين الشبان أو المخرجين الذين أسهم فى صناعتهم، إيمانًا منه بأن المخرج هو المسئول عن العمل كله، حباه الله قدرة فذة فى تحويل المشاهد المأساوية الفاجعة إلى مشاهد كوميدية ضاحكة بما يبتكره من حركات يوظف بها جسد الممثل، وبما يبتكره من طريقة نطق وتنغيم الكلمات وتقطيعها وتكرارها لتحويل الحوار من مجرد حوار عادى إلى حوار متفجر بالضحك.

وصفه الكاتب الساخر محمود السعدنى بلقب «البلياتشو»، وظن البعض أنه لقب شائن هدفه السخرية منه، لكن السعدنى كان يقصد أنه صانع ماهر عظيم، ولهذا قال : « لو كان عبد المنعم مدبولى حيًّا يرزق لحظة دخول السلطان سليم مصر، لأمر بنقله إلى القسطنطينية مع مهرة الصناع والعمال الذين خطفهم من القاهرة ليصبحوا زينة ملكه وإشعاع النور فى عاصمته، لأن مدبولى ترزى عربى عظيم قادر على تفصيل كل الجلاليب وكل الأدوار، فهو أعظم مضحك، وصانع كل المضحكين!».

اقرأ أيضاً | بسبب بابا عبده.. رسالة خاصة من السادات لـ«عبد المنعم مدبولي»

مدبولى نجح فى تغيير جلده فأبكانا فى فيلم «مولد يا دنيا»، وأشجانا بأغنيته الشهيرة «طيب يا صبر طيب»، لم يكن الفيلم الأول الذى يلتقى فيه بحسين كمال، فى مسرحية «بمبة كشر» فاكتشف حسين فى مدبولى ما لم يكتشفه مدبولى فى نفسه، والتفت مدبولى إلى قدراته الميلودرامية التى أحبها فى بداياته عندما عمل وهو دون العشرين بفرقة العملاق جورج أبيض، ولهذا حرك مشاعرنا وأبكانا فى شخصية «بابا عبده» التى قدمها باقتدار فى مسلسل «أبنائى الأعزاء.. شكرًا» الذى تخلص فيه من صفة «البلياتشو»، والرئيس السادات كان شديد الحرص على متابعة المسلسل، وكرم مدبولى فى عيد الفن وهو يقول له بصوت مسموع « أنا معجب جدا ببابا عبده.. مسلسل يحمل قيمة إنسانية عالية، أنا كنت بتابع الحلقات وطلبت من الأولاد إنهم يسجلوها وكنت أشاهدها مرة أخرى قبل دخولى للسرير»، وعندما شارف السبعين من عمره ظل يناضل من أجل البقاء على سطح الحياة الفنية، فعمل مع المخرج جلال الشرقاوى فى مسرح الدولة بمسرحية «الجنزير» مجسدًا شخصية الجد القعيد على كرسى متحرك الذى يندد بالإرهاب والعنف والتطرف مستعرضًا أيامه التى كانت تتسم بالألفة والتسامح بين الناس.

قال لى إن جورج أبيض أسند له دورًا صغيرًا فى واحدة من مسرحياته، وعندما رآه يرتجف أمامه من الخوف قال له «يا بنى.. سيكون لك مستقبل باهر.. ستكون خليفتى فى الدراما»، ومع ذلك تشبث مدبولى بالوظيفة الميرى ولم يتفرغ للفن إيمانا منه بأن الفن وحده لا يحمى من غدر الزمن، فلم يترك وظيفته كمدرس بكلية الفنون إلا عندما بلغ سن المعاش !

قال لى أيضا إنه تأثر فى بداياته بنجيب الريحانى وعلى الكسار، لكنه كان متيما بشارلى شابلن لأنه كان يقدم أعظم كوميديا تنبع من الموقف الإنسانى المأسوى، وقال إنه من هواة مشاهدة المصارعة الحرة، لأنها تضحكه عندما يشاهد ثيرانًا بشرية تصارع بعضها البعض وتسيل الدماء من وجوههم، وفكر ذات مرة أن يقدم عملا يقوم على تقطيع مشاهد الثيران البشرية المتصارعة ومشاهد أخرى لأوركسترا سيمفونى يعزف مقطوعة لبيتهوفن أو موزارت ليبين الفارق بين همجية الثور البشرى المتقاتل بالدم ورقّة الكمان المنساب على يد عازف يهذب النفس بموسيقاه، فى الخلاصة نؤكد أن أغلب نجوم الكوميديا من جيل الوسط خرجوا من تحت عباءة عبد المنعم مدبولى، بالاكتشاف والتبنى، أو التأثير بمدرسة «المدبوليزم».
من كتاب «نجوم السعادة »

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة