زكريا عبدالجواد
زكريا عبدالجواد


قواعد اللهجة الصعيدية

زكريا عبدالجواد

الخميس، 30 ديسمبر 2021 - 05:41 م

أمسكت بسور الكوبرى، وأعطيت ظهرى للمارة، وسكبت وصلة عشق وعتاب للنهر الذى يجرى ببطء ملحوظ، ولكنها كانت لحظة ونس ذكرتنى بماء قادم تعوم على وجهه سيرة أهلى فى الجنوب

لم أفكر يومًا فى التمرد على لهجتى الصعيدية، ليقينى أنها جزء أصيل من الهوية، وأشعر بونس الروح حين أسمع الذين ينطقون الجيم والقاف على طبيعتيهما، وحين أركب القطار باتجاه الجنوب وأستمع للهجتنا أشعر بأنى وصلت لقريتى وأسكب سنوات الاغتراب من النافذة فورا.

فى الصعيد.. نُميز أهل كل قرية بمفردة تخصها، أو موسيقى صوتية فى كلمة بعينها. ولكن بعد إقامتى «الدائمة» فى القاهرة، تطرزت بعض العبارات الصعيدية بلهجة تلك المدينة الصاخبة، وبات على أن أتلاشى بعض المفردات، وتحديثها بما هو متداول.
وفى الجامعة.. كنا نشعر بالأمان، ونتغلب على قسوة الغربة بدفء اللهجة، التى كان صديقنا حسين يتكلمها بطبيعة أهل قريته، مما نصبنى مترجمًا خاصًا له دون أجر، خدمة لزملائنا «البحاروة».

كانت اللهجة الصعيدية لزميلنا منصور سببًا فى حب زميلة له، وانتهت قصتهما بالزواج، ورغم ذلك كانت نفس اللهجة سببًا فى إقصاء صديق آخر من العمل فى خدمة العملاء بشركة مرموقة.
كنا ولازلنا «كصعايدة» نواجه من يسخرون، ونسعد بآخرين يرحبون بلهجتنا المختلفة مطمئنين إلى طباع أصحابها. ولكن يظل الصراع قائمًا فى صدر الجنوبي.. بين لهجة تُكسبه متعة الإحساس برائحة الجذور، وأخرى «مصطنعة» مهما أتقنها.. يفضحها انفعاله.

أتوبيس على النيل
فجأة.. تعطل الأتوبيس على مشارف كوبرى قصر النيل، اعتبرتها فرصة عظيمة للترجل وتأمل جريان النهر العظيم، وخاصة منظر الأسود الأربعة المنحوتة التى تحرسه، والتى لم يشفع لها الصمت والكف عن الزئير فتطاول عليها بعض العشاق بكتابة حروفهم الأولى على وجوهها، فى استهانة واضحة بمقام ملك الغابة، وأكد المشهد أنه كلما صمت الأسد تهاون به الآخرون.
فجأة.. استوقفنى شابان على الكوبرى وقال أحدهما: هل تسمح بالتقاط صورة لنا؟ وشدد أن يظهر أكبر قدر من النيل فى خلفية الصورة، فأنهيت المهمة بنجاح. بعدها.. أمسكت بسور الكوبري، وأعطيت ظهرى للمارة، وسكبت وصلة عشق وعتاب للنهر الذى يجرى ببطء ملحوظ، ولكنها كانت لحظة ونس ذكرتنى بماء قادم تعوم على وجهه سيرة أهلى فى الجنوب، وضحكات الأطفال هناك، وعلامات مجاديف الصيد لأهلنا الطيبين، وورق مذكرات غرامية تعود لما قبل عصر السوشيال، ولم تسمح العادات لطرفيها الاعتراف بالحب، كما أكد المشهد أن النيل يسرى فى العروق، وتربطنا به حياة دونها الموت، وتاريخ وجغرافيا لا يقبلان البهت أو النسيان أبدا.

حكايتى مع الجمبري
لست جمبريًا، ولا من هواة منظره. استوقفنى بائع خلف شارع الصحافة، وقال بحماسةٍ: لوعرفت بكام الكيلو هاتاخد يا بيه! لم أعره اهتمامًا، وزاد امتعاضى من رؤية بعض منه على كفيه المبسوطتين لغواية المارة.
انشغل عنى الرجل بعجوز سأله بفضول عن السعر، بينما وقفتُ من بعيد أنتظرُ صديقًا، وابتلع ضجيج الكلاكسات صوتهما، وحول المشهد لمنظر من السينما الصامتة وبعد مفاوضات وزن البائع للمسن، وظل يحاكيه بابتسام، فجأة بكى العجوز، وأخرج منديلًا، ومسح به دمعًا غزيرًا.

ثم حمل الرجل أوجاعه وكمية الجمبرى فى شنطة من البلاستك الأسود ثم أعطاه البائع واحدة أخرى مجانية، وبدت خطواته مثقلة وحين وصل للرصيف الآخر وجد مسنًا يبيع مناديل ورقية لا تمتص الهموم، فأخذ منه واحدًا وأعطاه خمسة جنيهات، ولم ينتظر ليأخذ باقى نقوده ثم استأنف البكاء وانصرف.
ساقنى الفضول لسؤال البائع عن سر بكاء الرجل فقال: إنه أحب الجمبرى جدا، بعد أن كان يتأفف منه، ولكن عشقه من طريقة طهى زوجته «الإسكندرانية» التى قدمته له لأول مرة أيام الخطوبة، قبل خمسين عامًا، وأن ابنته تُعده له بشكل جيد، ولكن ليس كزوجته أبدا، وأنه كلما رأى الجمبرى التهمت الذكريات خاطره، وأجهش بالبكاء حسرة على رفيقة عمره، التى ماتت قبل خمس سنوات.

جدتى والبطل المغوار
كانت المرة الأولى التى أرى فيها جدتى تتعاطف مع قاتل بل وتبارك فعلته، وتنظر لأشلاء جثة المقتول بنشوة انتصار،ٍ وتدثرها بعبارات التشفي.
كان المجنى عليه مؤذيًا ولصًا عتيًا، سرق كل أحلامها، ولطالما ابتهلت إلى السماء عقب كل صلاة، ودعتنا جميعا للتأمين على ماتقول.
لم يكن أحد يحب ذلك السفاح، فهو من سلالة معروفة بالشر وسفك الدماء، والتمثيل بجثث قتلاهم، أو التسبب فى خسائر فادحة، وهذه أضعف الأضرار.
بعد واقعة القتل.. خصصت جدتى لذلك القط الجسور حصة إضافية من اللحم واللبن، وكلما اقترب منها.. تتأمل عينيه اللامعتين، وفروه الناعم، وخطاه المرصوفة بالثقة والكبرياء، وأسنانه البيضاء، ومخالبه التى انقض بها على الفأر اللعين، الذى ارتكب مجازر راح ضحيتها عشرات من صغار الأرانب والحمام.

لم تكتفِ جدتى بهذا القدر من التدليل لهذا القط المغوار، بل كانت تشعل له الحطب فى الشتاء، واعتبرته قائدًا وحارسًا أمينًا على عشة الطيور الكبيرة. وحين مات.. بكته بحرقة، وظلت حزينة عليه لوقتٍ طويل، ورغم تكملة أحد أبنائه لدور البطولة ولكنها كانت تتألم عندما تتذكره وكلما حاولت التخفيف عنها تقول: الشجعان فقط يا صغيرى هم الباقون فى ذاكرة الزمن، وهم الأجدر بعظيم الحزن و طول البكاء.

صابرين.. سرى الدفين
مرة واحدة فى عمرى دخلت السينما، كنت فى الصف الأول الثانوى بالمعهد الأزهرى فى قنا، وكان دخولها حتميًا لإعلان التمرد على تقاليد قرية من يضبط فيها متلبسًا ولو بتصفح مجلة فنية يعد مارقًا و«بتاع بنات».

غرام الأفاعى كان الفيلم، وكانت الفرحة الكبرى لـ«حسين» بلدياتى الذى قايضنى على كتم سر فعلتنا، حتى يرى فتاة أحلامه «ليلى علوى» بأكبر صورة ممكنة.
وبالمقابل أرى «صابرين» التى اعتقد خيالى المراهق أنى سألتقيها حين أذهب للجامعة بالقاهرة، وأخبرها بلوعتى التى لا تعلم عنها شيئا.
بهرتنا حزم الضوء من الخلف، وأجلسنا رجل طويل، تفحص مقعدينا بكشافٍ، وظل واقفًا للحظات، عرفنا فيما بعد أنه كان ينتظر بقشيشًا، لا نعلم عن ثقافته شيئًا.

وظل يرمقنا بتجهم حتى انتهى الفيلم! كان دور ليلى علوى صيدلانية أحبت زميلها الفقير «هشام عبد الحميد»، ورفض أهلها الارتباط به، فتزوجت ثريًا «صلاح قابيل» حقق لها حلم امتلاك صيدلية والعيش فى حياة الرفاهية.

ولكن ظل قلبها مشغولًا بالحببب البائس. فتحايلت على زوجها بضرورة توظيف صيدلى فكان اختيارها لذلك الحبيب، وأجلت الإنجاب من زوجها بأقراص الخديعة، حتى اكتشفت صابرين «التى كانت تقوم بدور أخت الزوج» خيانة ليلى من حبيبها هشام ورصدت حضنًا دافئًا بينهما «فى الصيدلية» حول قاعة السينما لساحة من الصفير.

حينها غضب بلدياتى جدا من ليلى، وكره أن تكون فتاة أحلامه امرأة خائنة. بينما تراجعت أنا عن الوله بصابرين، من نافذة أن المشاعر أسمى أن تكون مجرد سلعة قابلة للعرض على من لا يكترث بها.

وانتهى الفيلم بموت هشام وليلي، بعد أن دس كل منهما السم للآخر، وذاقا من نفس الكأس بعد تخلص ليلى من زوجها بنفس الطريقة بوشاية الحبيب! وفى النهاية اكتشفنا أنا وصديقى أن الأحلام قطعًا لا تتحق كلها فى عمر واحد، وأن المشاعر «دون تعقل» ربما تجرفنا لشطآنٍ لا ينبغى لنا أن نقربها أبدا.

يعنى إيه جواب؟
سألنى ابنى البالغ من العمر عشر سنوات هذا السؤال، فأرجعنى للوراء قبل ثلاثين عامًا، حيث كنا ننتظر «منصور» الساعى على مصطبتين يتوسطهما ضلفتى دُكان أبى القديم جدا، وينتظره معنا عدد كبير من أهل القرية، ويعلو إحدى المصطبتين صندوق بريد حديد مدفون فى حائط المنزل منذ زمن لا يذكره أحد.

كان منصور الساعى يأتى راكبًا دراجة، تعتبر وقتها جزءا من حداثة لافتة لأهل القرية، فيستقبله الرجال المتراصون واقفين، ترحيبًا به، ويهم أحدهم بمسك الدراجة، وآخر يساعده على فك عُقد الحبل الملفوف على شنطة جلد مهترئة، منتفخة بخطابات تفوح منها الوصايا والسلامات ورائحة الأشواق.
لم نعهد منصور الساعى باسمًا أبدا، كان يجلس على نصف المصطبة بمفرده، وتحوطه عمائم الرجال، فيستل من جيب جلابيته منديلًا كبيرًا يمتص عناء المشوار.

كان يفض هذا التجمهر بعبارة «هاوونا شوية» ثم ينادى على أسماء الناس.. ومن لم يأته خطاب .. يستدر عطفه ويقول: دوّر فى الشنطة كويس.. فينهره: يعنى جالك جواب ومداريه عنك!؟
ثم يُخرج من الشنطة القديمة مفاتيح غريبة وبدائية جدا .. ويقف على المصطبة ثم يفتح باب الصندوق الحديد، ويخرج كشفًا وورقًا وختّامة يضربها بعنف فى بروز حديد يشبه الرموز الهيروغليفية موجود فى باب الصندوق من الداخل .. وينظر بغضب لمن يقترب منه لحظتها، ويقول : دى أسرار شغل.
فات الزمن.. وأصبح الخطاب الورقى من الأساطير، وتاهت الأشواق بين نوافذ الماسنجر والإيميل وغيرها من وسائل التواصل الأخرى، ولكن لا يزال أغلب جيلنا يحتفظ بالخطابات الورقية المسطورة بذكريات لا تنسى مهما علاها غبار الزمن.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة