نوال مصطفى
نوال مصطفى


حبر على ورق

«عصفور» يحلق بعيدًا

نوال مصطفى

الأربعاء، 05 يناير 2022 - 07:12 م

اختار له القدر نهاية دراماتيكية تليق بحياة غنية، مشحونة بالفكر والثقافة والرغبة فى تغير الكون. رحل الدكتور جابر عصفور مع الساعات الأخيرة من عام 2021، وكأنه يغلق فصلًا مهمًا، وملهمًا فى تاريخ الثقافة والفكر العربى.

هذا الرجل عاش حياته بإحساس الفنان الحالم بتغيير العالم. لعب أدوارًا عديدة، كان فى كل منها مؤثرًا، منذ عين معيدًا بكلية الآداب جامعة القاهرة، مرورًا بكل المناصب الجامعية، أو الثقافية، أو السياسية التى تولاها على مدى حياته.

فى الجامعة لعب دور الأستاذ، كما يجب أن يكون، ليس المحاضر البارع الذى يبهر طلبته فحسب، بل الأستاذ الذى يريد أن يحفز حواس الفكر، ويشعل حماس المعرفة عند تلاميذه. لذلك كان إسهامه مبدعًا فى خلق أجيال من تلامذته نجحوا فى أن يتبوأوا مناصب مهمة فى مختلف الدول العربية.

وعندما تولى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة حوّلَ المجلس من مجرد مؤسسة لا تفعل شيئًا غير منح جوائز الدولة التقديرية والتشجيعية إلى مؤسسة ثقافية بالمعنى الكامل للكلمة، واستقبل خلال تلك الفترة عددًا من كبار مثقفى العالم، ومعظم مثقفى العرب. وقدّم بمبادرة شخصية منه إلى رأس الدولة المشروع القومى للترجمة فتمت الموافقة على إنشائه وتولى رئاسته، وتحول بعد ذلك إلى المركز القومى للترجمة.

لعب الدكتور جابر عصفور دورًا مهمًا فى نقل أمهات الكتب الفرنسية والإنجليزية إلى اللغة العربية خلال ترأسه للمركز القومى للترجمة. ورصد تجربته هذه فى كتاب بعنوان: «قاطرة التقدم: الترجمة ومجتمع المعرفة».

وكان رئيسًا للجنة الثقافة بالمجلس القومى للمرأة، الذى شرفت بعضويتها فى عهده، وحظيت برؤى عميقة خلال تلك الفترة عام 2007-2010، كان دائم الحديث وقتها عن ضرورة وجود استراتيجية ثقافية لمصر، وكان شديد الإيمان بالمرأة وقدراتها على التغيير والنهوض بمصر. يتحدث بامتنان شديد عن أستاذته الدكتورة سهير القلماوى، ويقول إنها هى صاحبة الفضل الأول فى تشكيل فكره، وتوجيه ملكاته فى الإتجاه الصحيح.

عين وزيرًا للثقافة مرتين، إحداهما فى 2011 ثم استقال من المنصب بعد 9 أيام فقط، ثم أعيد تعيينه عام 2014، واستمر وزيرًا لمدة عام واحد. أعتقد أن المنصب السياسى لم يكن يستهويه كثيرًا، بل موقعه كمفكر يشتبك مع الواقع الثقافى، ويخوض المعارك الفكرية الضارية مع قوى الظلام فى المنطقة العربية.

عناوين مؤلفات عصفور تجسد ذلك بوضوح: «محنة التنوير» و»أنوار العقل» و»زمن الرواية» و»غواية التراث» و»النقد الأدبى والهوية الثقافية» و»نقد ثقافة التخلف» و»تحديات الناقد المعاصر» و»زمن جميل مضى» و»فى محبة الشعر» و»هوامش على دفتر التنوير».

موقف «عصفور» الفكرى الذى تبناه صحبة رفاقه من المثقفين المستنيرين كان سببًا رئيسيًا من أسباب فشل مشروع الإخوان فى مصر والمنطقة العربية، لأنه اتخذ موقفًا نقديًا واضحًا شجاعًا ضد هذا التيار.

لم يكن جابر عصفور ناقدًا أدبيًا قديرًا فحسب، بل مفكرًا كبيرًا منخرطًا فى هموم عصره وقضاياه. لذلك جمع بين النقد الأدبى، والاشتباك مع قضايا فكرية وسياسية شائكة. كان مقاتلًا بفكره وقلمه وثقافته الموسوعية المتعمقة فى سائر علوم المعرفة فى معركة التنوير، يحاجى شيوخ التطرف والفكر الظلامى الحجة بالحجة، ويضعهم فى موقف الخجل من أنفسهم وجهلهم بعلوم الفقه والدين التى يدعون كذبًا وبهتانًا أنهم أساتذتها.

رحم الله المفكر.. الإنسان .. الأستاذ.. دكتور جابر عصفور.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة