شهادة للراحل د. جابر عصفور
شهادة للراحل د. جابر عصفور


شهادة للراحل د. جابر عصفور

أخبار الأدب

السبت، 08 يناير 2022 - 04:04 م

ترجع رغبتى فى ممارسة النقد الأدبى إلى بدايات بعيدة، قبل أن أدخل إلى الجامعة، فلا أزال أذكر أننى فى المرحلة الثانوية كنت قارئاً نهماً للأعمال الأدبية التى تشدنى، وكان على رأسها أعمال نجيب محفوظ التى دفعتنى إلى أن أكتب عنها مقالات قصيرة فى صحيفة الحائط، التى كنا نكتبها فى المدرسة الثانوية بوصفها نوعاً من النشاط الثقافى، وأذكر أننى قبل أن أغادر الثانوية كتبت بحثاً عن شاعرية أحمد شوقى ولم أكن فيه ناقداً بمعنى الكلمة، وإنما كنت معتمداً على أفكارى الساذجة فى ذلك الوقت، وآراء غيرى المنشورة فى الكتب إلى درجة أراها الآن نوعاً من السرقة الأدبية البريئة من كتب شوقى ضيف، وطه حسين، وشكيب أرسلان، وغيرهم من الذين كتبوا عن شاعرية أحمد شوقى، وعندما دخلت الجامعة فى سبتمبر 1961 كنت قد فرغت من قراءة ما كتبه طه حسين فى النقد الأدبى، بالقدر الذى كنت فيه متبعاً نهماً لكتابات تلامذته المباشرين من أمثال محمد مندور، ولويس عوض، وكان محمد مندور يجذبنى على نحو خاص بسبب سهولة أسلوبه التعليمى، إلى درجة جعلتنى أتعلق به قارئاً، وأتتبعه فى كل الندوات، التى كان يحضرها أو يقدمها فى كل الندوات، التى كان يحضرها أو يقدمها فى المنتديات الثقافية فى القاهرة، ولا أنسى يوم وفاته فى يونيو 1965، وكنت حينها أؤدى امتحانات الليسانس، وفاجأنى زميلى المرحوم حسن توفيق، بنبأ وفاة مندور، الذى كانوا يطلقون عليه لقب «شيخ النقاد» وبكينا معاً على فقد هذا الناقد الكبير، الذى ترك فىَّ أثراً لا يمكن نسيانه، ولذلك ظللت منطوياً على رغبتى فى أن أكتب عنه كتاباً، وما أكثر ما كتبت عنه من مقالات، ولكنى لم أستطع إلى اليوم تنفيذ ما وعدتُ نفسى بأن أنجزه منذ سنوات بعيدة.

تعلمت من سهير القلماوى أن الناقد لا يكون ناقداً إلا بعد أن يتقن لغة أجنبية واحدة على الأقل، يستطيع أن يبحر بها بعيداً فى آداب العالم لكى يعود إلى أدبه مزوداً بخبرات جديدة

وأذكر أنه عندما طلب منا أستاذى عبدالمحسن طه بدر كتابة بحث فى الرواية العربية الحديثة، اخترت أن أكتب عن إحدى شخصيات (بداية ونهاية) لنجيب محفظ، متابعاً ما فعله محمد مندور فى كتابه (نماذج بشرية) 1944، وأظن أن تكوينى لم يقتصر على طه حسين، الذى عشقته قبل أن أراه، وحدّد لى طريق حياتى قبل أن ألتقيه مع أستاذتى سهير القلماوى، التى أدين لها بالكثير، فقد علمنى طه حسين أن أتمسك بالمنهجية، التى عرفت معناها للمرة الأولى من كتاباته، مؤكداً العقلانية التى تتوسل بالشك لكى تصل إلى اليقين، فضلاً عن بقية المبادئ النقدية أو المنهجية، التى تعلمتها من طه حسين.

 

الذى أسعدنى الحظ بمقابلته فى صحبة أستاذتى سهير القلماوى، وكنت قبل أن أراه أحفظ عن ظهر قلب ما قاله عن أهمية الحرية فى البحث الأدبى، وكيف أن هذه الحرية ألزم ما تكون للمبدع والدارس على السواء.

ولا أزال أستراجع كلماته عن العلاقة بين الأدب وناقده والحرية، التى لها كل الأولوية فى فكر طه حسين، خصوصاً حين يقول: «هذه الحرية التى نطلبها للأدب لن تُنال لأننا نتمناها، فنحن نستطيع أن نتمنى، وما كان الأمل وحده منتجاً، وما كان يكفى أن تتمنى لتحقق أمانيك، إنما ننال هذه الحرية يوم نأخذها بأنفسنا، لا ننتظر أن تمنحنا إياها سلطة ما، فقد أراد الله أن تكون هذه الحرية حقاً للعلم.

 

وقد أراد الله أن تكون مصر بلداً متحضراً يتمتع بالحرية فى ظل الدستور والقانون».
وأعتقد أن إيمان طه حسين بالحرية والعدالة الاجتماعية، التى جعلها عدالة ثقافية، فضلاً عن نزعته الإنسانية، وإيمانه الدائم بالتطور.. كل ذلك جعلنى محباً له، وحريصاً على أن أكتب عنه كتابى (المرايا المتجاورة: دراسة فى نقد طه حسين).
ولم يكن طه حسين هو وحده الجد، الذى أفخر بالانتساب إليه، وإنما أضيف إليه كل تلامذته الذين أصبحوا أساتذة مباشرين لى.

ابتداءً من سهير القلماوى، مروراً بعبدالعزيز الأهوانى، وشكرى عياد، ومحمد مندور.. وربما كان أقدمهم تأثيراً فى تكوينى العقلى محمد مندور، الذى كنت أقرأ له قبل أن أدخل جامعة القاهرة، وأختار الدراسة فى قسم اللغة العربية بها، ولقد كان أهم ما تعلمته من مندور رهافة القراءة النصية، التى تعلمها من مدرسة شرح النصوص فى فرنسا، والتى كانت كتبه المختلفة عن الشعراء بوجه خاص تطبيقاً لمبادئها، ولا أنسى كتابه (النقد والنقاد المعاصرون)، ولاشك أن جملته الأثيرة إلى نفسى: «الفهم تملكٌ للمفهوم» لن تفارق ذهنى قط إلى اليم.

ومازلت مؤمناً بما كان يرمى إليه من أنّ الذوق المدرَّب هو المحرك الأول لكل عملية نقدية، ولذلك لم يكن غريباً أن أكتب بحث الليسانس فى مادة الأدب العربى الحديث بعنوان: «حسنين.. قمة المأساة فى (بداية ونهاية)»، متابعاً ما كتبه محمد مندور عن النماذج البشرية التى اختارها من بين الروايات العربية والأجنبية، خصوصاً ما كتبه عن «أحمد عاكف: الرجوازى الصغير».

 


والمؤكد أننى تعلمت من مندور الثقة فى الذوق المدرب، كما تعلمت من سهير القلماوى أن الناقد لا يكون ناقداً إلا بعد أن يتقن لغة أجنبية واحدة على الأقل، يستطيع أن يبحر بها بعيداً فى آداب العالم لكى يعود إلى أدبه مزوداً بخبرات جديدة، كما تعلمت من أستاذى شكرى عياد أنه لابد للناقد من أساس فلسفى يستند إليه فى رؤيته للعالم والأدب على السواء.

وكان المشهد الأدبى النقدى فى منتصف الستينيات موزعاً بين قطبين: أنصار البحث عن البُعد الاجتماعى للأدب، أمثال محمد مندور ولويس عوض، فى مقابل أصحاب البحث عن البُعد الجمالى دون سواه، وتمثلهم مدرسة رشاد رشدى، وكتابات زكى نجيب محمود، وقد كان مندور إلى جانب لويس عوض يحتكران حبى وتقديرى، وذلك بالقدر، الذى نفرت به من كتاب محمود أمين العالم، وعبدالعظيم أنيس (فى الثقافة المصرية) الذى صدر فى بيروت 1955.

ولكنى لم أقرأه ولا فى مطالع الستينيات عندما أصبحت طالباً فى قسم اللغة العربية، والحق أننى لم أرتح قط إلى هذا الكتاب وأسلوبه الدوجماتى فى معالجة قضايا الأدب والثقافة، فقد كان العالم وعبدالعظيم أنيس ناقدين إيديولوجيين بالمعنى السلبى لكلمة الإيديولوجية، ولم يكونا معاصرين أو حتى قارئين لتيارات النقد الأدبى فى ظل يموج بها العالم المعاصر، فحق عليهما أن يكتب عن كتابهما ناقداً وناقضاً، المثقف الماركسى الأكثر معاصرة، والأكثر عمقاً فى معاصرته، الأستاذ أبوسيف يوسف مقالاً بعنوان: «نقادنا المعاصرون غير معاصرين».


وبعد أن تخرجت فى الجامعة سنة 1965، قررت أن تجمع أطروحتى للماجستير بين الحسنيين: الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية للأدب من ناحية، ودراسة الجوانب الفنية من ناحية موازية، هكذا قمت بتسجيل أطروحتى للماجستير عن «الصورة الفنية فى شعر الإحياء»، التى استغرقت منى أربع سنوات حتى أنجزتها، وعندما أتطلع الآن إلى هذه الأطروحة من بعيد، أجد أننى وقت فى حبائل أستاذى عبدالعزيز الأهوانى- عليه رحمة الله- خصوصاً فىما أكده فى كتابه عن (ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار)، فقد كان يرى- رحمه الله- أن دراسة الشعر العربى فى مراحله المتأخرة ينبغى أن تكون معتمدة على اكتشاف كيف يسعى الشاعر المتأخر إلى أن يعتمد على الشعراء السابقين عليه، خصوصاً فى مراحل ازدهار الشعر العربى الأولى، وعلى ذلك، يصبح الناقد للشعر الإحيائى أشبه بقصّاص الأثر، الذى يتتبع الأصول المباشرة وغير المباشرة.

التى أخذ عنها الشعراء المتأخرون شعرهم، على نحو غدا معه هذا الشعر كما لو كان سبيكة امتزجت فيها أخلاط متنوعة من التراث الشعرى الأسبق، وقد تحولت إلى قصّاص للأثر حقاً، خصوصاً فى تتبعى علاقة شعراء النهضة.

أو الإحياء، بأسلافهم من الشعراء الأوائل الذين أخذوا عنهم شعرهم، وقد لامنى أستاذى شكرى عياد فى لجنة المناقشة بأننى كتبت أطروحتى بناء على تصور سابق، وكان معه الحق، فقد كنت واقعاً تحت تأثير عبدالعزيز الأهوانى ومنهجه فى دراسة ابن سناء الملك إلى أبعد حد، وفى هذا السياق الزمنى صدمتنا هزيمة 67 التى ناقشت الماجستير بعدها بعامين.
والمؤكد أن هزيمة 67 دفعت الكثيرين من أبناء جيلى إلى الشك فى كل شىء، وإلى الثورة على بطريركية الأب السياسى، الذى كان يمثله جمال عبداالناصر فى ذلك الوقت، فاختلط الأدبى بالسياسى على نحو لم ننج منه إلى اليوم.

وكانت أكثر المناهج شيوعاً فى ذلك الوقت بقايا المدرسة الجمالية، التى كان لايزال يمثلها رشاد رشدى وتلامذته مقابل مدرسة الالتزام الاجتماعى، التى كان يمثلها بدرجات متفاونة، كل من محمد مندور، ولويس عوض، وعلى نحو دوجمائى محمود أمين العالم، وعبدالعظيم أنيس.

 
لكن الثورة التى ولدّتها هزيمة 67 فى نفوسنا جعلتنا نتطلع إلى مدارس ومذاهب نقدية جديدة، كما لو أن الجدّة فى هذا الوقت كانت نوعاً من التخلص من أسر الماضى، الذى قادنا إلى الهزيمة المروعة فى 67.

وهكذا ما كدنا نسمع عن البنيوية بنوعيها: الشكلى والتوليدى فى ذلك الوقت، حتى اندفعنا إليهما لنفاجأ بأن العداء بينهما يشبه العداء بين طرفى الثنائية الضدية التى كانت موجودة قبل 67، فى مرحلة الحرب الباردة، فإذا بنا أمام البنيوية اللغوية المنسوبة إلى دى سوسير، التى طلق عليها أنصارها البنيوية الشكلية، فى مقابل النقيض: البنيوية التوليدية، التى رآها نقاد اليسار نوعاً من التغير الجذرى، الذى يخلصهم من مزالق الواقعية الاشتراكية وفضائحها، بل يدفعهم إلى منطقة أبعد غوراً فى الاقتراب من النص الأدبى على نحو ما كان يؤكد لوسيان جولدمان فى كتاباته التى تأثرت بها، وحاولت أن أتبعها فى بحث لى عن التراث النقدى، كان موضوعه «نقد ابن المعتز».


وأعترف أن عام 1977 كان عاماً حاسماً فى تكوينى الثقافى والنقدى إلى أبعد حد، فقد أتيح لى أن أذهب إلى الولايات المتحدة، جامعة ماديسون- وسنكسن، وأن أقضى فيها عاماً كاملاً متابعاً متغيرات النقد الأدبى العالمى، على الأقل المكتوب باللغة الإنجليزية، ولقد ظللت أعمال طوال هذا العام ليلاً نهاراً، دون كلل أو ملل، لكى أرتفع بثقافتى النقدية إلى المستوى، الذى كان قد وصل إليه النقد العالمى فى ذلك الوقت.

وقد كتبت عن ذلك أكثر من مرة، وأحسب أنه من المصادفات السعيدة أننى بعد أن عدت من الولايات المتحدة تناقشت مع صلاح عبدالصبور فى ضرورة إنشاء مجلة نقدية متخصصة ذات مستوى متميز فى النقد الأدبى، وبالفعل نجحنا فى إصدار هذه المجلة التى رأس تحريرها عزالدين إسماعيل، وكنت أنا وصلاح فضل نائبى رئيس التحرير، وأؤمن أن هذه المجلة قد أبرزت جيلاً جديداً من النقاد، على نحو تغيرت معه لغة النقد الأدبى ومصطلحاته الأساسية

.
وعندما أستعيد هذه الفترة البعيدة من الزمن، أجد نفسى منطوياً على ناقد عقلانى «يريد أن يرى النظام فى الفوضى، وأن يرى الجمال فى النظام»، ولذلك كنت أردد دائماً بينى وبين نفسى هذين السطرين اللذين كتبهما صلاح عبدالصبور فى قصيدته «مرثية رجل عظيم» ضمن ديولنه الصادر عام 1970 (تأملات فى زمن جريح).

وواضح أن تكرارى هذين البيتين كان تعبيراً عن طريقة بعينها فى رؤية العالم، فقد كنت حقاً أريد أن أرى النظام فى فوضى ما بعد العام السابع والستين.. ولم أكن- ولا أزال- أدرك بوضوح- كما أدرك الآن- أن البحث عن نسق معقول هو مفتاح فهم الأشياء.

وهو الدليل على تملكها معرفياً ما ظل الفهم تملكاً للمفهوم، كما تعلمت من محمد مندور. ولهذا لم أجد غرابة فى نزوعى إلى الإفادة من النقيضين: البنيوية اللغوية (الشكلية)، والبنيوية الوليدية، فكلتاهما- على الرغم من التباعد الجذرى بينهما، حتى فى مفهوم البنية نفسها- تؤكدان هذه العقلانية التى انطوى عليها، وكلتاهما تحيل الأعمال الإبداعية إلى عمليات مفهومة وأبنية معقولة، يمكن للعقل أن يتملكها معرفياً، وهذا ما كنت أسعى إليه فى مقاربة الأعمال الإبداعية إلى عمليات مفهومة وأبنية معقولة، يمكن للعقل أن يتملكها معرفياً.

 

وهذا ما كنت أسعى إيه فى مقاربة الأعمال الإبداعية التى كنت- ومازلت- أراها أشبه بعوالم نتأملها، باحثين فى كل عالم منها عن الخيط أو الخيوط التى تلم شتاتها، وتنتظمها، مختفية وراء تشتت الأشكال والصور وخلف تغير الأمزجة والعقول، هل كنت واعياً بهذه العقلانية التى انطويت عليها؟ المؤكد أننى لم أعرف ذلك إلا بعد سنوات من التأمل الذاتى والتجريب النقدى، فقد لاحظت- على مستوى الممارسة النقدية وما تنطوى عليه من استبطان ذاتى- أننى أقرب إلى وضوح أبوللو، الإله الشمسى، الذى يمثل التناسب والاتزان الكلاسيكى.

وأبعد ما أكون عن ديونيسيوس الذى يمثل الاندفاع فى عوالم النشوة والجنون، ولذلك وجدت نفسى أنحاز بقلبى إلى شعر صلاح عبدالصبور العقلانى.

وأعجب بدرجة لا تخلو من التحفظ أحياناً بشعر أدونيس، الذى يكاد يكون نقيضاً للعقلانية، خصوصاً فى شطحاته الصوفية فى أندلس الأعماق، أو الهجرة الدائمة بين أقاليم الوعى واللاوعى.


وعلى مستوى المدارس النقدية التى جاءت فى أعقاب المد البنيوى، كنت أقرب إلى أفكار ميشيل فوكو وإعادة صياغتها فى نقد إدوارد سعيد، ولم أتعاطف تماماً مع تفكيكية جاك دريدا، بالرغم من أنى دعوته إلى القاهرة.

وقضى عدداً من الأيام الغنية بالنقاش معى والمجموعة التى كانت تترجم كتابه الأشهر (فى علم الكتابة) أو «جراماتولوجي». هذه النزعة العقلانية التى أنطوى عليها هى نزعة رحبة مفتوحة لكل ما يتناقض ظاهريا والعقلانية.

فما أكثر ما يبدو غير المعقول فى الأدب معقولا ونسقيا! خصوصا عندما نمحصه ونسلط عليه أنوار العقل، فنكتشف أنه غير خارج على قوعد العقل المرنة فى النهاية. وأظن أن إعجابى بإدوارد سعيد الذى تأثرت به شخصيا وبكتاباته لم يكن نقيضا لهذه العقلانية، فإدوارد سعيد نفسه يمكن أن نصفه بأنه عقلانى ينتسب إلى اليسار الأمريكي. ولذلك ظل نموذجا لالتزام الناقد بقضايا أمته والجماعة الإنسانية التى ينتمى إليها، الهوية الفلسطينية المدنية التى ينتسب إليها.

وكتب من أجل إيمانه بها عن «النقد المدني» بوصفه نقدا مضادا لكل ماهو أصولى، متعصب وعرقي، ومعاد للإنسانية.


وكان وصولى إلى هذا النوع من الإدراك ينعكس على كتاباتي، سواء على مستوى النقد التطبيقى أو النقد النظري. ولعله من المهم هنا أن أؤكد اهتمامى المبرر بالنقد النظرى أو النقد الشارح أو نقد النقد.

وكلها دلالات مختلفة لمدلول واحد، فالنقد- من حيث هو عملية تصورية وإجرائية- لابد أن يراجع نفسه فى اللحظات المتوترة من التاريخ أو المغيرات الجذرية للزمن الذى يكتب فيه. ومن المؤكد أن نقد النقد أو النقد النظرى عملية بالغة الأهمية فى إدراك التوازى بين متغيرات الزمن ومتغيرات الأفكار النقدية، ولهذا اهتممت بالنقد النظري، ولعلى من أكثر النقاد لأبناء جيلى كتابة فى مجاله.

فكتبى الأربعة الأولى تدخل فى باب النقد الشارح أو نقد النقد، سواء كان (الصورة الفنية فى التراث البلاغى والنقدي) الذى نشر للمرة الأولى سنة 1974، أو (مفهوم الشعر) الذى نشرت طبعته الأولى سنة 1998، أو (مفهوم الشعر) الذى نشرت طبعته الأولى سنة 1998، و(المرايا المتجاورة: دراسة فى نقد طه حسين) الذى نشرت طبعته الأولى فى سنة 1983.

وأضيف إليها (قراءة التراث النقدي) الذى صدرت طبعته الأولى سنة 1991، ولا أستثنى منها (آفاق العصر) الذى صدر سنة 1977 أو (نظريات معاصرة) الصادر سنة 1998، أو حتى (زمن الرواية) سنة 1999 أو (قراءة النقد الأدبي) الذى صدر سنة 2002، وأخيرا (النقد الأدبى والهوية الثقافية) الذى صدرت طبعته الأولى سنة 2010.


إن اهتمامى بالنقد النظرى أو نقد النقد هو أمر ناتج عن إحساس ينبع من إدراكى بأهمية مراجعة القواعد لانظرية، التى ينبنى عليها النقد الأدبى فى كل مرحلة زمنية متوترة، أو متأزمة، أو تختلط فيها الأمور.

وما زلت أعتقد- كذلك- أن النقد الأدبى يشبه القاطرة، التى تحتاج إلى الصيانة والكشف على آلياتها، خصوصا إذا ما شعر الناقد أن سرعة القاطرة لم تعد بالكفاءة نفسها. والمؤكد أنه تمر فترات زمنية يرتبك فيها النقد الأدبى وتخلتط فيها الأشياء، وعندئذ لابد من المراجعة لكى تعود الأجزاء المحركة للقاطرة إلى حالتها الأولى من الكفاءة والسرعة.

ولهذا أشعر أن ما كتبته من نقد شارح أو نقد للنقد لا ينفصل أبدا عما كتبته من نقد تطبيقي، سواء فى مجال الشعر، الذى اهتممت بدراسته من عصر الإحياء إلى السبعينيات أو الرواية، التى تنبأت بأننا نعيش فى زمنها وأنها النوع الأدبى الصاعد فى زمن التغير والتحول. ولا أظن أن كتابا من كتبى أثار من الضجة.

ومن تناقضات القبول أو الرفض، كما أثار كتابى (زمن الرواية)، الذى صدرت طبعته الأولى سنة 1999، ولايزال هذا الكتاب- فى تقديري- أشبه بالنبوءة، التى سبقت الوجود الحقيقى لهذا السيل العرم، الذى نعيشه على مستويات الإبداع الروائي.


يبقى أن أؤكد أن العقلانية، التى أنطوى عليها، لا تنفصل عن مفاهيم معينة تظل أشبه بالثوابت فى عملى النقدي، أولها إيمانى بأن النقد الأدبى له وظيفة اجتماعية، وأن الناقد الأدبى فاعل اجتماعى من حيث هو فرد فى المجتمع، وأن ما يقوم به نشاط اجتماعى بالضرورة، مشروط بشروط اللحظة التريخية التى يمر بها مجتمعه، فهو يكتب داخل مجتمع يعى مسئوليته ودوره فيه، خصوصا من حيث كونه يسعى إلى أن يسهم مغ غيره، عن طريق دوره المتعين.

وعلى نحو ابشر أو غير مباشر، فى الانتقال بالمجتمع من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية، سبيله فى ذلك هو أداته النوعية من حيث هو فاعل اجتماعي. وهو الأمر الذى يفرض عليه أن يؤسس لنفسه أولا، وللآخرين ثانيا، وظيفة لهذا النقد/ الذى يمارسه تطبيقا وتنظيرا، مؤكدا أن نشاطه هذا ليس نشاطا إكماليا أو ثانويا لحضور الإبداع بأنواعه فى المجتمع، وإنما هو نشاط مواز، يتفق فى الهدف والقيمة ما ظلت وظيفة الإبداع مرتبطة بتحرير الإنسان من شروط الضرورة لينعم بآفاق الحرية، التى لا نهاية لأبعادها، ما ظلت منطوية على المسئولية، التى هى جزء من معناها.
وكما يدرك المبدع أنه يصل إلى العام من خلال الخاص، وإلى الإنسانى عبر المحلي، فإن الناقد يدرك أن نشاطه يبدأ من قراءة النصوص المتعينة، التى تفرض حضورها عليه سلبا أو إيجابيا، وتقوده قراءاتها، فى حالات بعينها إلى مراجعة أدواته المزود بها، كى تستوعب النظرية التى يتبناها «التنوع اللا نهائي» لأعمال الإبداع، التى قد تتأبى على حدود النظرية وأدواتها وقدرتها على الاستيعاب.

وعندئذ لابد من امتداد فعل المساءلة إلى النظرية نفسها، ووضعها موضع الفحص، سواء من منظور اكتمالها وسلامة أدواتها الذاتية، التى قد تقبل التطوير نتيجة هذه المساءلة غيرها، الذى يمكن أن يكون أكثر منها فاعلية.

فى الحالة الأولى يمكن تغيير هذه الأداة أو تلك من الأدوات التقنية لتغدو النظرية أكثر فاعلية، فى إطار الحفاظ على النسق الكلي، الذى يحتويها ويشد عناصرها التى هى أدواتها وتقنياتها، حتى المستعارة عن غيرها.

وفى الحالة الثانية، لابد من تغيير اللحمة والسداة، واستبدال نظرية بغيرها.
والحق أننى لم أصل إلى إدراكى لهذه الوظيفة الاجتماعية للنقد إلا بد أن وعيت أنه حتى الناقد الأدبى لابد أن يكون له دور فى مجتمعه، على الأقل بوصفه مثقفا، تؤرقه قضايا هذا المجتمع ومستقبله، خصوصا فى لحظات مثل تلك اللحظات التى نعيشها، فى عالم يسيطر عليه القمع من كل جوانبه وينتشر فيه الإرهاب الديني، كما ينتشر الطاعون فى بيئة قابلة للأوبئة.
ولكن هذا الإيمان بالدور الاجتماعى للنقد لا ينفى عنه خصوصيته المائزة، فالفارق بين النقد الأدبى والإبداع الأدبى فارق جذرى فى الكيفية ولكن ليس فى الهدف. إن الإبداع الأدبى فردى من نتاج شخص بعينه، يصوغ رؤية جمالية هى موازاة رمزية لواقع محدد، ومتغير.

وهى رؤية تجاوز هذا الواقع المتعين إلى كل ماهو إنساني، يخلو من شروط الضرورة. أما الإبداع الثانى فهو الإبداع، الذى يتصل بصياغة النظرية النقدية، أو تطبيقها، فهو بناء تصورى يجاوز الفرد عابرا للأقطار والقارات.

ولا يمكن نسبته إلى دين ولا قومية، ولا حتى إلى فرد بعينه، وإن بدأت نواة النظرية من فرد، كما حدث مع البنيوية التى بدأ تشكلها من محاضرات دى سوسير فى جامعة جنيف فى سويسرا مع السنوات الأولى من القرن العشرين، والتى انتهت رسميا مع ثورة الطلاب فى باريس سنة 1968. وما بين سقوط البنيوية وعامنا هذا، 2016، سنوات ليست قليلة، انقلب فيها العالم رأسا على عقب، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وفكريا مرات ومرات، وتبدو هذه السنوات، التى تجاوز نصف قرن، كأنها عصور متطاولة من الأحداث الجسام، التى أسهمت فى تغيير كل الموازين والمعايير سلبا وإيجابا.

ربما كان أهم ما فى عناصر الإيجاب ما أحدثته الطفرة المذهلة فى التكنولوجيا من ثورة معرفية غير مسبوقة فى كل مجال، ومنها النقد الأدبي، الذى لم يعد منقسما بين قطبى البنيوية اللغوية (الشكلية) والبنيوية التوليدية، فى انقسام بدا كأنه رجع صدى للثنائية الضدية للحرب الباردة بين الرأسمالية والاشتراكية.


لقد ترك العالم هذه الثنائية وتخلى عنها ليدخل زمنا مغايرا لم تعد الولايات المتحدة تنعم فيه بدور القطب الواحد الأحد، حتى لو كانت أوهامها لا تزال تخايلها بذلك، ودخلنا فى زمن متعدد الأقطاب، انزاحت فيه المركزية الأوروبية - الأمريكية من صدار المشهد ليظهر عالم جديد مزاحم للمركز، قائم على التنوع البشرى الخلاق، الذى يضع النمور الآسيوية، متواصلة الصعود، فى موقع الصدارة من تعددية المركز، التى حلت محل الثنائية أو حتى الأحادية، التى بدأت حلت محل الثنائية أو حتى الأحادية، التيبدأت رحلة الأفول، وفى مقابل هذاالتحول وفى موازاته.

وليس على نحو آلي، انداحت فيه الثنائى القديمة للبنيوية اللغوية والبنيوية التوليدية إلى تعددية ما بعدالبنيوية، بل ما بعد الما بعد، فأصبحنا فى مواجهة التفكيك، الذى تغيرت صور أواخره عن صور أوائله، وثله «السيميوطيقا».

وأضف إليها «الهرمنيوطيقا» أو «نظرية الخطاب»، «وخطاب ما بعد الاستعمار»، الذى أصبح مدارس واتجاهات. وأضيف إلى الأسماء القديمة العشرات من الأسماء والإنجازات، التى لم تفلت من صفات التعدد والتنوع فيها «نظريات الاستقبال» و «جماليات التلقي» فى موازاة إنجازات مدارس علم النفس المختلفة، ابتداء من تلامذة لاكان فى التحليل، وليس انتهاء بدراسات المدارس التجريبية فى علم النفس الإبداعى والتلقى على السواء.


صحيح أن الأخذ من النظريات النقدية الأجد لم يقض على الجديد الأصيل، ولكن مشهد التنوع الخلاق الذى تتراكم إنجازاته، عاما بعد عام، اختلف اختلافا جذريا عما كان عليه فى السبعينيات.

والتعدد الذى يلازم التنوع الخلاق الذى تتراكم إنجازاته، عاما بعد عام، اختلف اختلافا جذريا عما كان عليه فى السبعينيات. والتعدد الذى يلازم التنوع الخلاق بقدر ما يشير إلى تغير مشهد النقد العالمي، وفى سياق أوسع من المتغيرات الجذرية العالمية، يفرض على الناقد الأدبى فى العالم العربى أن يراجع موقفه وموقعه، ويسائل نفسه فى مواجهة هذه التحولات المعرفية، سواء فى مجاله النوعي، أو بما يتأثر به فى هذا المجال النوعي، خصوصا فى زمن صاعد من علاقات المعرفة البينية.


هذه المتغيرات تفرض نفسها على الناقد المعاصر، الذى ينبغى أن لا يتوقف عن مساءلة كل ما هو جديد وكل ما هو قديم كان مؤمنا به، وذلك على نحو يخرجه من موقف الاتباع إلى موقف الابتداع.

وبالقدر نفسه، على هذا الناقد أن يؤمن أن كل نظرية - سواء أكانت جديدة أم قديمة - تنطوى على إمكان إيديولوجي، يوحى بأنها الأكمل والأشمل، ولذلك فرن فعل المساءلة الدائم يحرر الناقد من الوقوع فى أسر الإمكان الإيديولوجى لأية نظرية من النظريات.

وحتى تلك التى لا يؤمن بها عليه أن يدرك أنها نظرية لا صيغة نهائية لها، وأنها تصبح أكثر فاعلية بالقدر الذى لا تتوقف قط عن أن تكون موضوعا للمساءلة، التى تبدأ من اختياره لها، ولا تتوقف هذه المساءلة حتى فى ممارستها بوصفها موضوعا، ولا عن فاعل المساءلة بوصفه ذاتا للموضوع.


هل أستطيع أن أتحدث عن ثوابت فى رحلتى النقدية التى بدأت منذ تخرجى سنة 1965 إلى اليوم، وهى مرحلة زمنية تنبسط على ما يزيد من نصف قرن، كنت شاهدا فيها على أحداث واقعنا المتحول وفاعلا فى المشهد المتحول بدوره؟

أعتقد أن الإجابة يمكن أن تشمل المظاهر التالية:
1 - الرغبة الدائمة فى التجدد وعدم الركون إلى الثابت وغير المتحول. فمن خصائص الحياة الحركة الدائمة والتحول المستمر، ولذلك فلا أظن أننى الآن فى عامى الثانى والسبعين هو ما كنت عليه فى عامى الخمسين أو الأربعين، فلا أزال قابلا للتجدد وحريصا عليه إلى نهاية ما يقدره لى الله من عمر.


2 - إننى كنت فاعلا بكل ما أستطيع فى تأكيدى تطوير الثقافة النقدية للحياة الثقافية المصرية والعربية، ولذلك انضممت إلى أستاذى عزالدين إسماعيل وصديقى صلاح فضل وأسسنا معا مجلة فصول التى كان لها - ولا يزال - تأثيرها الحاسم فى إبراز جيل جديد من النقاد؛ ابتداء من كما أبوديب من سوريا، وعبدالله الغزامى من السعودية، ومحمد برادة ومحمد بنيس من المغرب، وحمادى صمود وبعدالسلام المسدى وغيرهم من تونس، وفريال غزول من العراق، ولا يزال تتابع الأجيال مستمرا، تسعى إلى إبرازه هيئة تحرير «فصول» الجديدة.


3 - إننى حافظت على هذه الروح عندما أصبحت أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة، فأسست «المشروعى القومى للترجمة» الذى أصبح «المركز القومى للترجمة»، وأعترف أننى كنت - ومازالت - منحازا لكتب النقد الأدبى والدراسات الأدبية، وكانت النتيجة أن أصبح لدينا أكبر مكتبة نقدية مترجمة، على امتداد العالم العربي. ولا تزال فرحتى غامرة بأن تلامذتى وتلامذة تلامذتى يواصلون هذه المهمة بنجاح يفرحنى إلى أبعد حد.


4 - إن عقلانيتى قادتنى إلى التمسك بفعد التنوير، الذى لا يقتصر على النقد الأدبى وحده، وإنما يمتد ليواجه تيارات الإظلام والنقل والتقدى على مستوى الفكر وليس النقد. ولا أزال مؤمنا أنه لا تجددا حيويا فى الأدب أو النقد أو غيرهما إلا إذا كان المجتمع مستنيرا قابلا للغتير إلى الأفضل، نزاعا بحكم استنارته إلى محاربة قوى الإظلام الفكرى والإرهاب الدينى على السواء.

ولذلك لم أتردد فى أن أمزج بين النقد الأدبى وأفكارى التنويوية لكى نصنع حلم الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة، وهو الحلم الذى لم يتحقق بعد، على الرغم من كل ما فعله الشباب فى 25 يناير و30 يونوي. فالمجتمع الذى نعيش فيه لا يزال منغلقا عليه بطريركية التحول بينه واستعادة حيويته أو انطلاقه الكامل إلى المستقبل.


5 - وهذا يعنى أن عقلانيتى النقدية لا تنفصل عن عقلانيتى التنويوية، فأنا ناقد تنويرى بالمعنى الذى قصد إليه إدوارد سعيد حينما تحدث عن الناقد المدني، ولذلك لا زال على ما أنا عليه من المزج بين الناقد الثقافى والناقد التنويرى فى غير حالة، ومثال ذلك ما فعلته فى كتابى (عن الرواية والاستنارة) الذى صدرت طبعته الأولى سنة 2011، وكتابى عن الرواية (فى مواجهة الإرهاب) المنشور سنة 2003، وكتابى الأخير (المقاومة بالكتابة) الصادر سنج 2016، وهو عن الروايات التى واجهت الاستبداد السياسي.


6 - لقد أتاح لى عملى أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة أن أدعو كبار النقاد والكتاب فى العالم، الأمر الذى ترتب عليه قضاء جاك دريدا عشرة أيام فى مصر، ومناقشات مطولة حول معنى التفكيك وأهداف فلسفته، فضلا عن كتاب كبار آخرين وعالميين، منهم ماريو فارجاس يوسا الذى حصل على جائزة نوبل سنة 2010، وروبرت يونج ناقد ما بعد الاستعمار، وميشيل بوتور الناقد العالمى الذى شارك بكتاباته الروائية فيما كان يطلق عليه «الرواية الجديدة»، وغير هذه الشخصيات أسماء غابت عن ذاكرتي. وعن طريق هذه الدعوات استطاع المثقف المصرى والعربى أن يطرح أسئلته المباشرة على هؤلاء الأعلام فى العالم كله. وأرجو أن تتواصل هذه التقاليد فى المجلس الأعلى للثقافة.


7 - إن النقد الأدبى كما يعنى لى - فى التحليل الأخير - عملية مساءلة متعددة الأطراف والأوجه (سواء بالمعنى الأفقى السنتجماتي، أو الرأسى البارادجماتي). وهذه المساءلة تبدأ من لحظات اختيار النظرية أو لحظات ممارستها، أو لحظات اختبار سلامة نتائج عملها، أعنى فعل اليقين من سلامة النتائج التى يتوصل إليها الناقد فى مرحلته النهائية. والأمر هنا لا يقتصر على معنى التثبت verification بل يجاوزه إلى معنى التقييم eveluation وكل ما يصل الناقد بمباحث الإبستمولوجيا التى هى موضع الوصل الأول بين الناقد والمفكر، فكل ناقد كبير ينطوى نقده - دائما - على ما يصله بالفلسفة، منذ زمن أفلاطون وأرسطو إلى زمن دريدا وجيجيك.
شهادة ألقاها د.جابر عصفور
فى مؤتمر بالجامعة الأمريكية فى فبراير 2006

اقرأ ايضا | ثلاثة نقاد في وداع «عصفور»

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة