خالد محمود
خالد محمود يكتب .. لماذا كان يوسف شاهين هكذا ؟!
السبت، 15 يناير 2022 - 02:16 م
يبقى الشغف والحنين إلى سينما يوسف شاهين مستمرا.. حنين يدعوك للبحث عن إجابات لتساؤلات عديدة محيرة، تتسرب إلى وجدانك من آن لآخر، كلما شاهدت فيلما له لتقف في مفترق الطرق.. «لماذا كان شاهين هكذا؟.. لماذا كان مفكرا سينمائيا وشاهدا على عصر وملهما بروح تجوب العالم الإنساني؟»..
أعتقد أن النواة الحقيقة للإجابة هي إن شاهين استطاع وبجرأة شديدة ــ لم يحظ بها آخرون ــ أن يعبر عن ذاته روحا وفكرا، لم يخجل من طرح أحلامه وأوهامه سواء على المستوى الشخصي أو القومي أو الفني، كان ذكيا في طرح أفكاره، وربما هذا هو سر تميزه، وأعتبره أيضا واضحا وصريحا، وهنا يكمن إبداعه.
كلما فكرت في الكتابة عن المخرج الكبير، تتناثر مشاهد شاهين السينمائية والحياتية أمامي، تعيد قراءة وطن، قراءة الآخر، ونعيد معها قراءة أنفسنا، والسؤال هنا «إلى أي مدى عبر شاهين عن نفسه في الأفلام التي قدمها بعيدا عن مجموعة سيرته الذاتية؟»، أعتقد أنه كان أكثر جمالا ووعيا في أفلام كثيرة بعيدا عن مجموعة أفلام السيرة .
كان التمرد عند شاهين مثل البراءة الكاشفة، لأنه كان لا يعرف الادعاء، ولا يسعى لشعارات بقدر ما شكلت رؤيته في أفلامه أراءً وإشارات وعلامات تحذير يمتد عمرها بعمر الوطن، وسعى إلى تدمير أفكار زائفة وتعرية إزدواجية راسخة في أعماق مجتمع، عبر أقنعة شخصياته السينمائية التي تنبض بالروح وبالحب وبالألم والحلم.
وهو ما لمسناه مثلا في شخصية «قناوي» التي جسدها بنفسه في فيلم «باب الحديد» عام 1985، وقف شاهين خلف الكاميرا ليقدم أداءً عبقريا لشخصية من صميم الحياة، فيها فكرة، ولها روح، ووراءها هدف، تحمل ملامح من خير وملامح من شر دفعه إليه ظروف مجتمع .
شكل الفيلم والشخصية نوعية جديدة من السينما غير المألوفة، عرفت بـ «الواقعية الجديدة»، وبطل أحدث شرخا في جدار الإنسانية المزيفة ليعيد بناءها من جديد في وجدان المتلقى، وهو ما أعتبر انتصار للسينما .
عبقرية «قناوي» بائع الجرائد الغير متزن نفسيا، هنا تكمن في المزج بين أنها شخصية يقودها الهوس الجنسي والغيرة وارتكاب جريمة، وفي الوقت نفسه تتمتع بجانب إنساني نتعاطف معها، حيث يعيش صراع كبير .، «قناوي» الذي جسده شاهين بقوة وإتقان وتفرد أتاحت له وظيفته الجديدة كبائع للجرائد من التحرك وسط أوجاع وأفراح مريدي المحطة التي شبّهها شاهين بـ «الدنيا»، والتي تجمع المُحب والمُفارق، الحزين والسعيد، القادم والراحل.
لم يطمح «قناوي» إلا في حب يجعل «هنومة» تشاركه حلمه، «بيت على البحر وقطعة أرض يزرعها وأبقار تعاونهم في الزراعة»، كان حلم «هنومة» يسير في إتجاه مغاير» زواجها من أبو سريع وترك الرصيف بلا راجعة والعيش مع من أحبها والإنجاب منه»، حلمًا آخر يقوده «أبو سريع» في صورة «الزعيم» الذي يسعى لتكوين نقابة لحماية الشيالين وإيفاء حقوق من أُصيب نتيجة عمله، ومعهم «عم مدبولي» الذي يروي حكاية محطة القطار، هكذا استطاع شاهين أن يجمع أحلام العامل والحبيب والحبيبة والعاشق العاجز عن الوصل لحبيبته.، ويكتسب الفيلم قوته من البناء الدرامي المتماسك والجريء للغاية، والذي يعتمد على عدة شخصيات تحمل تركيبات نفسية ثرية للغاية تنبع من خلفيتها الإجتماعية والثقافية والسياسية.
ظهر «قناوي» لأول مرة على الشاشة مكسور وضعيف محني الظهر وحيدا، ثم أظهر أنه مصاب بالحرمان الجنسي لدرجة الجنون، وفي مشهد آخر نرى وجه «قناوي» أمام الشاشة من خلف زجاج، يعود «قناوي» إلى المكان الذي يسكن فيه ونجده يرسم دلو «هنومة» على صورة الفتاة، يبدو أن «قناوي» يتخيل أن «هنومة» معه في هذه الحجرة ملكه، يجلس على الأرض يحرك السروال حتى يحجب أشعة الشمس عنه، أخيرا يشعر «قناوي» بأنه إنسان مثل الباقي، أخيرا يشعر بالسوأ،
ونقف عند واحد من أعظم مشاهد السينما، وهو مشهد الرقص داخل القطار، وقد لخص الفيلم بالكامل، ترقص «هنومة» داخل القطار في سعادة وهي توزع المشروبات الغازية على الكل، لترى «قناوي» حزينا وحيدا خارج القطار، فتعرض عليه مشروب وتبتسم له، فيرقص من الفرح خارج القطار وهي ترقص بالداخل، شاهين يقول في هذا المشهد أن «قناوي» سيظل منعزلا عن المجتمع، لن ينغمس فيه أبدا، وسيظل بالنسبة لكل شخص غريب عنهم، حتى وأن تصالحت معه «هنومة».
وفي مشهد آخر، يوضح علاقة حب «قناوي» بـ «هنومة» بشكل رمزي أكثر من عظيم، عندما يعود إلى المكان الذي يسكن فيه يحمل القطة وكأنها «هنومة»، ويحتضنها بكل حب وحنان، يبدأ في حكاية أحلامه معها، لكن القطة تخربش «قناوي» وتترك جرح في مكان قلبه، مثلما فعلت «هنومة» معه، فكان يعاملها بكل حب وحنان لكنها جرحت قلبه لذلك قرر قتلها.
يأتي «أبو سريع» ومعه الشرطة، وتجتمع الكثير من الناس لتحاول إنقاذ «هنومة» من «قناوي»، لكنهم يجدونه يضع السكين حول رقبة «هنومة»، يبدأ «عم مدبولي» في الكلام مع «قناوي» الذي كان كأب له قائلا: «هعملك فرح كبير أوي.. فرح قناوي فرحك.. قوم ألبس جلابية الفرح يا قناوي.. فرحك يا قناوي ده أنا هعملهولك أجمل فرح.. يلا دخل أيديك جوا الأكمام»، بعد هذه الجملة تبدأ موسيقى في منتهى الشاعرية، ونرى «قناوي» مبتسما سعيدا، وأخيرا سيحقق حلمه ويتزوج من «هنومة»، لكن لن تدوم سعادته طويلا، حيث يعلم أنها كذبة، ويبدأ في الصراخ بشكل مؤلم ومؤثر، لينتهي الفيلم بصراخ «قناوي» مكبل الأيدي بعد أن فقد حبيبته، ونجد تلك الفتاة وحيدة حزينة بعد أن ذهب حبيبها.
الأرض
توحدت أفلام شاهين مع واقعها الإجتماعي والسياسي، وكذلك مع وجدان الجمهور بآلامه وأحلامه، وهو ما نراه أيضا في فيلم «الأرض» الذي قدمه عام 1970، ليعد من أكثر الأفلام المبنية بشكل جيد ومنطقي على مستوى الفكر، وتحويل الدراما إلى خيال وإبداع من خلال الإستخدام الجيد للصورة والموسيقى والمونتاج التي غالبا ما تظهر في سينما يوسف شاهين، إلا أن تميز «الأرض» جاء أيضا إعتمادا على كاتبه عبدالرحمن الشرقاوي، وسيناريو وحوار حسن فؤاد، فكانت البنية التحتية للفيلم عميقة وممتعة، فرؤيته الفنية تمتلك الحياة وتتجدد مع كل زمن، وذلك لاحتوائه على قدر كبير من الإحساس بمشكلة عضوية لمعاناة الفلاح المصري .
العصفور
يأتى فيلم «العصفور» الذي يتميز بالجرأة في العمل الفني، من خلال رفض الشعب المصري للهزيمة وبعده إعلان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر تنحيه عن منصبه، فخرج الشعب غاضباً، رافضا الهزيمة ويتمسك بالصمود والحرب حتى التحرير، وأصبحت شخصية «بهية» رمزا للوطنية ورمزا لمصر، لتجسد في نهاية الفيلم بصرختها «لأ، ح نحارب لأ، ح نحارب»، رغبة الشعب المصري في النضال، حيث تدور أحداثه قبل هزيمة1967 .
أما فيلمه المهم «الاختيار» - إنتاج 1970 - فيتناول لغز جريمة قتل كغطاء درامي للأحداث التي يطرح في جوهرها تعاظم الإنقسامات الفكرية بمصر في أعقاب نكسة يونيو المفجعة، دوائر لا تنتهي من الإبداع والقدرة على إدهاش المشاهد.
أما فيلمه الرائع «جميلة» - إنتاج 1958 - المرتكز إلى كتاب جاك فيرج الذي صدر بعد فترة قصيرة من تعذيب هذه المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد ومحاكمتها على أيدي الفرنسيين، فهو ميلودراما سياسية غير عادية حول نضالات التحرر في البيئات الاستعمارية، ولا يُنظر إلى هذا الفيلم على أنه يسلط الضوء على قصة إمرأة ثورية مهمة فحسب، بل يُظهر أيضًا نضال الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي، بل وتقديس ذلك النضال .
فالصورة التي قدمها شاهين مع كتاب السيناريو «نجيب محفوظ، يوسف الصيرابي، علي السركام»، تجسد فتاة جزائرية تحب وطنها، وتنضم للحركة الوطنية لبلدها لتحرير وطنها من الجنود الفرنسيين الذين يحتلون بلادها، وستكون جميلة - التي جسدتها ماجدة الصباحي - أكثر شجاعة في مواجهة الجنود وطردهم من بلادها، وستخطط مع أصدقائها لتحقيق حلمهم من خلال إجبار الجنود الأجانب على الانسحاب إلى بلادهم – فرنسا -، تبدأ جميلة وصديقاتها حركتهن، لكن العديد منهم سيقتلون بنيران الأعداء، وهذا لن يحبط إرادتهم، لكنهم سيكونون أقوى بكثير، ويدفعهم لمواصلة عملهم، ويحدث أمرا غير متوقع عندما يتم القبض على جميل، ويحاولون الحصول على بعض المعلومات حول الحركة الوطنية التي تنتمي إليها، لكنها ترفض تزويدهم بأي معلومات، هنا يبدأون في تعذيبها للسماح لها بالتحدث، لكنها تفضل أن يتم تعذيبها ولا تخبرهم أبدًا عما تعرفه، بينما لا تزال جميلة في السجن، يختار أصدقائها والشعب الجزائري الثورة من أجل تحرير بلدهم، وينجحون في النهاية، ويتحقق حلم جميلة.
وكأن لسان حال سينما شاهين تقول: «الحرية تجعلنا بشر حقيقيين.. والإنسانية لا شيء بدون حرية».
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة