قدمت الحرب العالمية الثانية فرصة جديدة لتصنيع مصر، فقد كانت مصر هي مقر مركز الشرق الأوسط للإمداد والتموين»‬ والذي كان شريان الحياة لجيوش الحلفاء، وتم تدريب 180 ألف مصري في ورش الحلفاء إذا ما أردت أن  ألخص تجربتي في دراسة ورسم سياسات التنمية في العقود الأربعة الماضية، فلا أجد إلا كلمة واحدة وهي التصنيع. إن التحول الكبير في مصر لابد ان يعتمد علي طفرة جديدة في التصنيع، أي لابد من إحداث تغيير هيكلي في بنية الاقتصاد المصري تكون فيه الصناعة هي »قاطرة التنمية». أحيانا يكون »‬التقليب» في الدفاتر القديمة مثيراً للاحباط، وأحيانا يكون مبعثا للأمل، وقد كان هذا شأني في الاسبوع الماضي.. زيارة لتاريخ مصر الاقتصادي في القرنين الماضيين خرجت منها بجرعة أمل غير عادية، فلقد كان التصنيع هو السمة الاساسية للنهوض الاقتصادي ومن ثم الازدهار، وفي المقابل كان تراجع التصنيع هو عنوان التأخر والتبعية. دعونا نذهب في رحلة مع التاريخ الاقتصادي لكي نبرهن علي صحة هذه المقولة، في عام 1976 (وثلاثة أعوام بعد العبور) نشرت جامعة اكسفورد كتابا بعنوان »‬تصنيع مصر» قمت بكتابته مع صديق العمر »‬روبرت مايرو» ذلك السكندري المصري حتي النخاع، وكانت الرسالة الاساسية هي أن مصر حاولت التصنيع في ظل نظم سياسية واقتصادية متباينة، حقق بعضها النجاح، وحالف بعضها الاخفاق ولكن الحقيقة الاساسية هي أن هذه التجارب كانت تبدأ ثم توشك علي النجاح ولكن سرعان ما تتراجع مخلفة فترة من الركود والعودة الي المجتمع التقليدي. بدأنا بإعادة »‬تأهيل» لتجربة محمد علي (1805 ـ 1849) الرائدة في تصنيع مصر، وقلنا أنه بعد الثورة الزراعية القائمة علي استثمار ضخم في البنية الاساسية للري، شرع محمد علي في تصنيع مصر، ولا يضيره ما روجت له الكتب الصادرة في الغرب علي أن الصناعة كانت قائمة علي تلبية احتياجات الجيش، فالثورة الصناعية في أوربا كانت مرتكزة علي التوسع الاستثماري الذي كانت ركيزته الجيش، قلنا أيضا إن محمد علي كان واعيا لدور العنصر البشري فأرسل البعثات بل وأنشأ 6 كليات فنية في حين كان لدي فرنسا 4 كليات فقط. ومما يذكر ان اليابان حينما بدأت نهضتها الحديثة بعد ثورة »‬الميجي» في 1868 أرسلت بعثة إلي مصر لدراسة تجربة محمد علي في التصنيع وفي بناء الأسطول البحري، ولقد أهداني سفير اليابان السابق لدي مصر صورة اعتز بها لهذه البعثة وهي تزور الأهرام! وانهارت تجربة محمد علي بضرب الجيش »‬ليس هناك جديد تحت الشمس»، وسادت فترة من الركود والتخلف إلي أن جاء اسماعيل باشا الذي ركز علي تحديث مصر وأعتمد علي تطوير البنية الأساسية وفي مقدمتها حفر قناة السويس، ولم تكتمل التجربة أيضا، بل تم نفي اسماعيل باشا عن مصر، ومرت فترة ركود تحولت مصر فيها إلي مزرعة للقطن لتصديره خاما إلي مصانع لانكشير في انجلترا لانتاج أفخر المنسوجات، وبعد الحرب العالمية الأولي بدأت أهمية الزراعة في التراجع وظهرت مقالات رصينة في مجلة »‬مصر المعاصرة» تنبه إلي خطر الاعتماد علي محصول القطن وضرورة تنويع مصادر الثروة في مصر، وهنا برز الاقتصادي العظيم طلعت حرب الذي ترك عمله كناظر للدائرة السنية وأنشأ بنك مصر وتحدي التقاليد المعرفية السائدة بأن استثمر في انشاء قاعدة صناعية جديدة مازال اثرها باقيا حتي الآن، وكالعادة تكاتفت جماعات المصالح التي ارتبط بالاستيراد والتصدير والتي كانت تري في التصنيع تهديدا لها، وتم عزل طلعت حرب من جميع شركاته، ومات متأثرا بنكران الجميل! قدمت الحرب العالمية الثانية فرصة جديدة لتصنيع مصر، فقد كانت مصر هي مقر مركز الشرق الأوسط للإمداد والتموين» والذي كان شريان الحياة لجيوش الحلفاء، وتم تدريب 180 ألف مصري في ورش الحلفاء، وكانوا هم نواة الطبقة العاملة الصناعية المدربة، والتي اعتمد عليها جمال عبدالناصر في احداث الطفرة الصناعية الثالثة، والتي غيرت خريطة الاقتصاد المصري بالكامل، ومرة أخري لم يسمح لهذه التجربة بالاستمرار بعد حرب 1967. يمكن إجمال التجربة منذ انتهاء الحقبة الناصرية وحتي ٢٠١١ في كلمة واحدة وهي »‬تفكيك التصنيع» (DE- INDUSEکIALI SATION)، إذ توقفت عملية التصنيع وتم الاعتماد المتزايد علي الواردات من الخارج وخاصة من الدول الآسيوية، وبدلا من أن يتوجه الشباب للعمل في الصناعة ذات الإنتاجية العالية والدخل المرتفع (كما تقول لنا كتب سنة أولي اقتصاد) توجهو إما إلي الهجرة للعمل في الخارج أو القطاعات الهامشية في الداخل، أو الالتحاق بصفوف المتعطلين. وأذكر حينها عدت لمصر في عام ٢٠٠٤ أنني ذهبت إلي شارع عبدالعزيز (قبلة التسوق للأدوات المنزلية) ولم أجد أي منتج مصري إلا باستثناء مروحة بائسة تصدر ضوضاء مثل كراكة قديمة!! إن تاريخ هذه الفترة هو تاريخ الفرص الضائعة، فلقد غابت مصر عن ثورتين للتصنيع في الدول النامية، الأولي التي اعتمدت فيها الدول الآسيوية علي التصنيع القائم علي الأيدي العاملة الرخيصة وذلك من أجل التصدير، والثانية هي التصنيع القائم علي استيعاب التقدم التكنولوجي واحتلال مواقع الدول المتقدمة التي تتجه إلي الصناعات ذات التقنية العالية والخدمات شديدة الربحية. ونحن الآن علي أعتاب ثورة صناعية ثالثة يتحدث عنها العالم وهي تعتمد علي توليفة بين الامكانيات التي توفرها الثورة الرقمية ومتطلبات الحفاظ علي البيئة (الاقتصاد الأخضر)، فهل نحن مستعدون للحاق بركب هذه الموجة الثالثة للتصنيع؟ ليس لدي شك بأن النظام الجديد في مصر قادر علي استعادة دور الصناعة باعتبارها قاطرة للتنمية - فلقد كان التركيز علي البنية الأساسية من جديد هو بشرة خير حقيقية لتمهيد الأرض لانطلاقة صناعية، ولكن هذا وحده لا يكفي. إن مصر الآن تحتل المرتبة ٦٢ من ١١٨ دولة في العالم، والمرتبة ٩ من ١٨ دولة عربية وفقا لمعيار التنافسية الصناعية الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، كذلك فإن صادرات مصر لا تتعدي ١٨٪ من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن هذه النسبة ترتفع إلي ٥٤٪ في كوريا و٨٢٪ في ماليزيا. إن تغيير هذا الوضع ليس مستحيلا، ولكن المطلوب هو تصميم وتنفيذ (٢٠ سطراً تحت التنفيذ) سياسة صناعية (Industrial Policy) حديثة تقوم علي دخول مصر في سلاسل الإنتاج العالمية، وذلك بتأهيل قوة عمل صناعية علي رأس العمل، إزالة معوقات الاستثمار، إنشاء مؤسسات تنموية حقيقية وفي مقدمتها مؤسسة شبه مستقلة للمشروعات الصغيرة  والمتوسطة، ودراسة القدرة التنافسية لمصر والقضاء علي عوامل انخفاضها، ودعم مصادر تقويتها. دعونا نبدأ الرؤية المستقبلية للاقتصاد المصري بتحديد هدف أن تمثل الصناعة ٤٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي (حاليا ٣٦٪ في ماليزيا مثلا) في مقابل نصيبها الآن وهو ٢٤٪ وتنفيذ السياسات الصناعية وإنشاء المؤسسات  (وليس الكيانات البيروقراطية) اللازمة لتحقيق هذا الهدف.. وليكن الشعار هو مارفعناه في الحركة الطلابية في الستينيات »‬كن واقعيا، واطلب المستحيل».