تم جر مصر إلي الخطأ الأكبر تحت شعار واهم وخادع وهو الانتخابات أولاً!! لا يعرف الكثيرون أن مصر من أوائل الدول في منطقة الشرق الأوسط، بل وربما في العالم، معرفةً بالنظام البرلماني. ففي إطار مشروع الخديو إسماعيل لتحويل مصر إلي قطعة من أوربا، شهدت مصر في عام 1866 نشأة مجلس شوري النواب. وبدا هذا المجلس في البداية وكأنه مجلس صوري شكلي، أو محاولة لتجميل وجه الخديو. إذ يحكي أنه ومع الجلسة الأولي للانعقاد لاحظ رئيس المجلس أن أغلب الأعضاء يجلسون علي اليسار، والأقل يجلسون علي اليمين، فقال الرئيس مازحًا: جري العرف في البرلمانات الأوربية أن من يجلس علي اليمين هم أنصار الحكومة، ومن يجلس علي اليسار هم المعارضون. وفي لمح البصر انتقل معظم الأعضاء للجلوس يمينًا!! لكن هذا المجلس الذي بدأ بداية متواضعة هو نفسه الذي سيصبح برلمان الثورة العرابية بعد سنواتٍ قليلة، لا سيما في عامي 1881- 1882. ولذلك ستكون من أولويات الاحتلال البريطاني حل هذا البرلمان، وحرمان مصر من هذا التطور الديمقراطي المهم الذي عرفته مصر. وسيظل حلم عودة البرلمان من جديد هو أمل الحركة الوطنية المصرية، حتي تنجح في ذلك بفضل ثورة 1919، حيث يكتسح الوفد المصري الانتخابات في عام 1921، ويصبح سعد زغلول هو زعيم الأغلبية ويشكل الوزارة الوطنية، هذه الوزارة التي للأسف لم تعمر كثيرًا نتيجة رغبة الاحتلال البريطاني في ضرب هذه التجربة البرلمانية الليبرالية المهمة. ومع ذلك صمدت الوطنية المصرية أمام تدخلات الملك والتعسف البريطاني لإفساد تجربة مصر الليبرالية، وكلما جرت انتخابات نزيهة اكتسح الوفد البرلمان. وحتي مع عودة الأحزاب وأيضًا الحياة النيابية السليمة في عصر السادات، شهدت مصر نجومًا برلمانية، كانت وقفة الواحد منهم يعادل حزبًا باكمله، نذكر منهم محمود القاضي وكمال أحمد وعلوي حافظ وغيرهم. وبعد ثورة 25 يناير تم جر مصر إلي الخطأ الأكبر تحت شعار واهم وخادع وهو الانتخابات أولاً!! وكان هذا الشعار معبرًا عن رغبة التيار الإسلامي في الإسراع بالانتخابات في ظل غياب تنظيمات مدنية قوية نتيجة عصر مبارك وحرمانه مصر من حياة نيابية سليمة، وبالتالي كانت النتيجة هي اكتساح هذا التيار لأكثر من 70 بالمائة من كراسي البرلمان، وما ترتب عليه من أُحادية عقيمة، وكأن الثورة قد قامت ليصل هذا التيار إلي الحكم، وليس من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ! ولذلك كانت النتيجة الطبيعية هي انسداد الأفق الديمقراطي، الذي خرجت منه مصر في 30 يونيو. وبدأت مصر خطوات التصحيح بالبدء بالدستور، وهو الذي كان يجب البدء به بعد ثورة 25 يناير، وبالفعل نجحت مصر في الاستحقاق الديمقراطي الأول وهو الدستور، والاستحقاق الثاني »‬انتخابات الرئاسة»، ويبقي الآن الاستحقاق الثالث وهو الانتخابات النيابية. وترجع أهمية المجلس القادم إلي أنه المجلس الذي سيعهد إليه بتحويل الدستور إلي قوانين تستطيع أن تعبر بمصر إلي دولة دستورية ديمقراطية حديثة، كما أن هذه القوانين المفترض فيها  أنها ستعالج الكثير من النقاط الحساسة التي لا يمكن التعامل معها من خلال قوانين تصدرها الحكومة، بل تحتاج إلي غطاء شعبي هو مجلس النواب. لكن الأهم من ذلك أن مجلس النواب القادم سيحدد شكل الخريطة السياسية للمستقبل، التي نتمني أن تتسم بالتعددية، وليس الأُحادية. لذلك أتمني أن نفهم جميعًا تاريخ مصر النيابي الطويل وأن نحاول الاستفادة منه، وأن يتم تحجيم دور المال السياسي والانحيازات الدينية لصالح عامل الجدارة، وأن ندرك جميعًا أن مجلس النواب القادم هو الضلع الثالث للهرم المصري: الدستور، الرئاسة، البرلمان.