سيذكر التاريخ لأحمد جويلي – والرجل دارس للإقتصاد الزراعي – أنه صاحب مقولة أو حلم اكتفاء مصر من القمح دون استيراد من الخارج عرفت أحمد جويلي باعتباره ابن قرية نكلا العنب مركز إيتاي البارود محافظة البحيرة. ونكلا كانت من القري التي دخلت طفولتي مبكراً. كان بها سوق كبير يوم السبت. وأسواق القري أقرب لكرنفالات شعبية فيها الكثير من أجواء الموالد ومن زيارات الغرباء. بل كانت فيه عروض فنية جميلة. عندما شارك أبي المرحوم الحاج عبد القوي سمك. علي أرض للزراعة في عزبته القريبة من قرية دمسنا ونكلا العنب. كنا نذهب كثيراً لنكلا. ربما كانت أول قرية تفتتح فيها مقهي. وكانت فيها سيارات نقل. وسيارات أجرة. تؤجر للقري المحيطة. وكان بها أول طبيب. في الناحية. الدكتور دبوس الشهير. ومن العائلة عرفت الدكتور حسين دبوس. الذي كان محافظاً للفيوم. والبحيرة. والصحفية سونيا دبوس بأخبار اليوم. عندما أصبح جويلي محافظاً. لدمياط والإسماعيلية. ثم وزيراً للتموين. ضرب مثالاً في نزاهة الإدارة. ونظافة اليد. أعتقد أن بطولة أحمد جويلي المبكرة أنه مرت من تحت يديه الملايين. بل المليارات. ولكنه أدرك مبكراً »حرمة المال العام»‬ والحفاظ عليه. دون إعلان. أو طنطنة. سيذكر التاريخ لأحمد جويلي – والرجل دارس للإقتصاد الزراعي – أنه صاحب مقولة أو حلم اكتفاء مصر من القمح دون استيراد من الخارج. لم يكن وزيراً للزراعة. وكان في زمنه ومعاصراً له وزير زراعة من مراكز القوي الكبري. فاكتفي الحلم بأن يكون حلماً في ضميره ووجدانه يحدثنا عنه. لكنه لا يستطيع إخراجه إلي العلن. من أحلام أحمد جويلي أيضاً أن المجمعات الاستهلاكية يمكن أن تكون صمام أمان لفكرة العدل الاجتماعي. وأنه يجب التوسع فيها. وزيادة السلع المعروضة بها. وأن تقدم لفقراء المصريين ما يحتاجونه بأقل الأسعار الممكنة. وقتها كانت المجمعات الاستهلاكية قد جري تحويلها إلي قطاع الأعمال العام ضمن هوجة الخصخصة التي باعوا أثمن ما في مصر خلالها. حاول أحمد جويلي ونجح بشكل مؤقت في نقل ملكية وإدارة المجمعات الاستهلاكية إلي وزارة التموين. ولكنه كان إجراء مؤقتاً. لأنه بعد رحيله عن وزارة التموين عادت المجمعات الاستهلاكية إلي قطاع الأعمال. إلي أن تنبهوا مؤخراً في حكومة المهندس إبراهيم محلب إلي أهمية المجمعات الاستهلاكية. فبدأوا في استكمال حلم أحمد جويلي الذي لم يستطع أن يكمله في ولايته لوزارة التموين. لا يمكن نسيان معركة استيراد اللحوم. ومافيا استيراد اللحوم. واصطدام أحمد جويلي بها. ووقوفه ضد إدخال لحوم منتهية الصلاحية أو من دولٍ لا تصلح لحومها لاستهلاك المصريين إن لم يكن للاستهلاك الآدمي. كانت المافيا أقوي منه. وربما أقوي من أي وزير آخر. وكان الفساد قد أصبح أسلوب حياة. وجزءاً من السلوك اليومي لأي مسئول. لذلك نجحوا في إقصائه عن وزارة التموين. وخرج الرجل بنزاهة وشرف والتزم الصمت. عندما ترك وزارة التموين. ذهبت إليه مع زميلي غالي محمد سليمان. نجم الجيل الطالع في صحافة مصر الآن. زرناه في منزله. شقة عادية في مساكن عادية. وقد لاحظت. أنه لم تكن هناك بقايا حراسة كانت موجودة من قبل لحراسته باعتباره كان وزيراً. وأن هناك مواطنين مصريين عاديين ذهبوا إلي بيته دون معرفة سابقة. ليعبروا عن حبهم له ومنهم من ذهب بجريدة. كتبت كلاماً طيباً عنه. واعتبرها أكبر هدية. يمكن أن يحملها. ومن ذهب ليقول كلمة تحية لمسئول رفيع لم يمد يده. الأمر الأهم أن الصالون الذي جلسنا فيه. كانت فيه »‬مروحة». وقد أوشكت أن أكلم نفسي. »‬مروحة؟!» في بيت وزير تموين سابق؟ وما أدراك ما وزير التموين في مصر. نفس التقشف شاهدته في مكتبه. عندما ترددت عليه أكثر من مرة. وحتي فترة قريبة عندما كنت أقابله. كنت ألمح خطوط الستينيات وتفصيلاتها فيما يرتديه من الملابس. إن مكافحة النفس والوقوف ضد رغباتها. مسألة لا يقدم عليها غير القديسين. أكتب هذا الكلام بمناسبة حصول أحمد جويلي علي جائزة مبارك للعلوم مؤخراً. لن أتكلم عن جوائز أواخر العمر. مد الله في عمر أحمد جويلي حتي ما بعد المائة. ولكن المهم أن الجائزة مؤخراً. تأكيداً لعدد كبير من المعاني النبيلة التي يمتلكها أحمد جويلي في حياتنا. عمل في مجلس الوحدة الاقتصادية فترة من الوقت. ولكنه كان يحب العمل في صمت. ولم نعرف ماذا أنجز؟ وماذا لم ينجز؟ ويبدو أن المجلس واحد من مجالس جامعة الدول العربية التي ربما كانت أقرب للديكور السياسي. منها للدور العام. مع أن جويلي كان يؤمن أن التكامل الاقتصادي العربي لا يقل أهمية عن الوحدة السياسية العربية. في إحدي زياراتي له. عرفت منه أن ابنه يعد رسالة دكتوراه عن الأدباء الذين أنهوا حياتهم بالانتحار. قبل أن أسأله: ولماذا فكر في هذا الموضوع الشائك؟ قبل طرح السؤال اكتشفت أن هذا الشبل من ذاك الأسد. وأن الإبن الشاب ورث جزءاً من عبقرية الأب. ونظافة مسلكه. وإخلاصه لما يقوم به. وقد ذكرت علي الفور أسماء الأدباء الذين أنهوا حياتهم بالانتحار لإيمانهم بأن الاستمرار في الحياة رفض عابر. لكن الانتحار قرار لا يقدر عليه الكثيرون.