مصطفي حسين كان دائم الحديث عن مدرس الرسم بالمدرسة الابتدائية.. وهو الاستاذ عدلي الذي اكتشف موهبته الفذة وهو في السادسة من العمر لم يصدر قرار جمهوري بأن تصبح أم كلثوم مطربة.. ولا قرار جمهوري بأن يصبح مصطفي حسين رساما.. وكذلك الحال بالنسبة لفاتن حمامة.. ونجاة الصغيرة.. وجميع نجوم الصحافة والادب والشعر والفكر الذين لمعت مواهبهم في سن الطفولة.. ومن عائلات لا تملك اي سلطان علي اجهزة التلميع والصنفرة والترويج والدعاية..بسبب بسيط هو انهم ولدوا في ظل ثقافة مجتمعية حاضنة للمواهب.. وحافزة لها علي الاستمرار.. وراعية للبراعم الصغيرة التي تبشر باثراء البلد بقيمة فنية فذة.. وقبل ذلك كله لم يكن المجتمع يعرف شن الحرب علي المواهب.. وتدميرها واصابة المجتمع بحالة من التصحر.. نعانيها هذه الايام! لقد تبني الشيخ أبوالعلا محمد.. موهبة أم كلثوم.. وهي طفلة! وتبني عبدالرحمن رشدي موهبة محمد عبدالوهاب صبيا.. يغني في فترات الاستراحة.. ضامرا... خجولا..يلبس البنطلون القصير.. ولا ينظر لأحد وهو يغني وتبني الاستاذ عدلي مدرس الرسم بالمدرسة الابتدائية موهبة مصطفي حسين.. وشجعها.. وهو في السادسة من العمر. ونماذج تشجيع المواهب واكتشافها في ذلك الزمن البعيد لا تقع تحت حصر.. وتكررت بشكل مذهل منذ قرن مضي.. وكان وراء كل نجم ساطع قصة بداية في سن الطفولة احتضنتها ثقافة مجتمعية تبني وتعمر وتثري وتنشر البهجة والامل والمتعة والترفع عن الصغائر.. والقدرة الفائقة علي حب الوطن. بعيدا عن بالوعات الصرف الصحي التي تلوث العقول بتحريم كل ألوان الابداع. وقصة حياة أم كلثوم ليست خافية.. علي احد.. فهي فلاحة من قرية نائية.. لاسرة متواضعة.. احتضنتها الثقافة المجتمعية السائدة في القاهرة.. وفتحت امامها ابواب التألق.. وهي ثقافة التعبير عن حب الوطن... بالسعي لاثرائه.. بالمبدعين.. علي اساس ان ثراء الأمم لايقاس فقط بالأموال والآثار.. وانما يقاس بالعدد الوفير من المبدعين.. الذين ينشرون الابداع والسلوكيات الحميدة وتحضرني بهذه المناسبة قصيدة لأبي تمام يقول فيها.. من لي بانسان اذا اغضبته وجهلت كان الحلم رد جوابه! اريد ان اقول ان احاديث المبدعين.. وكلماتهم.. هي التي تنشر الاخلاق الحميدة والقيم الرفيعة بين جميع طبقات المجتمع.. من البسطاء الذين يعانون الامية.. وحتي الذين تلقوا اعلي درجات العلم والمعرفة.. لأن الابداع مغروس في طينة الانسان منذ نشأ في حجر الطبيعة.. ومن لا يتأثر به لابد ان يكون به نقص في الخلقة. تشدني احاديث الشاعر احمد عبدالمعطي حجازي وأتأثر بكلماته. لانها تدعو.. بطريق غير مباشر.. الي الاخلاق الرفيعة واستخدام المفردات السامية.. كما تشدني كلمات طه حسين.. عندما قال لفاتن حمامة بعد ان استمع الي تسجيل لفيلم دعاء الكروان أنت خلتيني اشوف هنادي التي كتبت عنها الرواية كلام جميل ولغة راقية تعكس قدرة المبدع علي نشر الاخلاق الحميدة بين الناس. وقبل ان تسرقني السطور اعود لصديق العمر الراحل مصطفي حسين.. واشير الي ان مصطفي حسين كان دائم الحديث عن مدرس الرسم بالمدرسة الابتدائية.. وهو الاستاذ عدلي الذي اكتشف موهبته الفذة وهو في السادسة من العمر. يقول مصطفي كنت في الصف الاول الابتدائي.. عندما جذبتني حصة الرسم الاولي بقوة.. وكنت مشدودا للاستاذ عدلي. انصت باهتمام بالغ الي شرحه.. وهو يصف لنا العالم بطيوره الجميلة ذات الريش والتيجان الملونة.. ويتركنا نرسم طوال الحصة.. وعندما تأمل رسومي قال لي : أنا معجب جدا برسمك.. ثم اعطاني ورقة بيضاء كبيرة وطلب مني تكرار ما رسمته في الحصة.. وذهبت الي ابن عمتي الطالب الجامعي وقتها وطلبت منه ان يرسم طيورا جميلة علي الورقة الكبيرة.. فرسمها وفي اليوم التالي عرضتها علي الاستاذ عدلي.. وفوجئت برد فعله الفوري إذ قال لي إيه ده. إن هذه ليست خطوطك! ومن هنا بدأت رحلة صعود مصطفي حسين. كما كانت بداية ام كلثوم.. مع الشيخ أبوالعلا محمد.. الذي لم يقل لها يا ابنتي الغناء حرام ام كلثوم.. لم تمت.. ولا مصطفي حسين.. لأن المبدعين لا يموتون.. وهم يعيشون داخلنا.. حتي وان تنكر لهم بعض الناس!