ان أعظم تكريم للدكتور أحمد جويلي هو أن نقدمه للأجيال الشابة كنموذج للرجال المحترمين. في  مقال الأسبوع الماضي استأذنت القاريء للخروج عن السياق، وهو الرؤية المستقبلية للاقتصاد المصري، لتناول حدث مهم وهو فوز رجب طيب أردوغان برئاسة تركيا وما يمكن أن يكون له من تأثير علي محاولات صياغة الشرق الأوسط الجديد وتحجيم دور مصر كقوة إقليمية فاعلة. وسرعان ما اكتشفت أن هذا الخروج عن النص كان له ما يبرره تماما، فلم يضيع الشيخ يوسف القرضاوي ـ باعتباره أحد أدوات الترويج لهذه السياسية ـ وقتا في الخروج بتصريح واضح »‬نشرته المصري اليوم ١٨ أغسطس»، بأن و»‬الله وجبريل والملائكة وصالح المؤمنين يؤيدون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان!! وأن »‬اسطنبول عاصمة الخلافة الإسلامية وينبغي أن تكون عاصمة لكل عمل إسلامي، وهذا شأن تركيا التي تجمع بين الدين والدنيا، والقديم والجديد، والعربي والأعجمي، والأمة في إفريقيا وآسيا»!! وصلت الرسالة، وما علينا إلا أن نأخذ هذه الاستراتيجية في الاعتبار عند صياغة المستقبل في مصر. والآن نقتبس عنوان الفيلم الشهير »‬العودة إلي المستقبل» (١٩٨٥)، لنواصل رسم ملامح التحول الكبير الذي يتحول بسرعة من دائرة الضرورة إلي آفاق الممكن، فبعد تدشين مشروع قناة السويس، واعلان امكانية إنشاء منطقة صناعية بدعم روسي، جاء التصريح الهام للدكتور أشرف العربي وزير التخطيط حول »‬الخطة الأولية للتنمية المستدامة: مصر ٢٠٣٠»، التي تبدأ من أول يوليو ٢٠١٥، وتنتهي في يونيو ٢٠٢٩، وتستهدف رفع معدل نمو الاقتصاد المصري إلي ٩٪ سنويا مما يؤهل مصر لتحتل المرتبة ٣٠ من الاقتصادات العالمية، مقارنة بالمركز ٤١ حاليا. ولقد تابعت إعداد هذه الخطة الطموحة التي يقوم بإعدادها فريق من خيرة المتخصصين في مصر، وقمت بعرض بعض ملامحها في اجتماع مغلق تم بدعوة من »‬مركز الإمارات للسياسات»، في أبوظبي في يونيو الماضي وذلك لطمأنة الاشقاء من صانعي السياسة في الخليج علي أن مصر ماضية في طريق التحول وفق خطط واضحة ومدروسة. والسؤال المحوري هو: ما مقومات هذا التحول؟ واسترشادا بالتجارب الدولية الناجحة فإن هناك ثلاثة مقومات أساسية: >  قوة عمل منتجة > مصادر للنمو المستدام >  عدالة، في توزيع ثمار النمو وسوف نبدأ الحديث في هذا المقال عن أهم هذه المقومات وهو قوة العمل المنتجة، وانني اذكر أن تصدير العدد الأول لتقرير لتنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة التنموي في عام ١٩٩٠ يقرر بأن »‬البشر هم ثروة الأمم الحقيقية»، وعلي مدار العقود الاربعة الماضية لم أجد في مصر شخصا واحدا يختلف علي هذه المقولة،  فنحن نتحدث عن أن ثروة مصر هي في أهلها، وأنه يجب اصلاح التعليم، وأن منظومة التنمية البشرية تحتاج إلي إصلاح جذري.. نتحدث عن كل ذلك وتعقد له المؤتمرات، ونطرح الاستراتيجيات، ولكن النتيجة أن أقوالنا كانت في واد والواقع في واد آخر، وأصبحت القوة العاملة عبئا ومشكلة بدلا من أن تكون ثروة وأن تكون المصدر الرئيسي للرخاء. تكثر المقارنة بين مصر وكوريا الجنوبية، ولكن هذه المقارنة تقتصر علي ترديد الأمجاد السالفة حيث كان متوسط دخل الفرد في كلا البلدين متشابها في الستينيات من القرن الماضي، والآن أين نحن وأين هم؟ والتحدث لنا الآن هو أن نفهم أسباب هذا التخلف في السياق. إن الناتح المحلي الاجمالي في كوريا الآن يصل إلي حوالي ١.٦٤٠ مليار دولار وفي مصر ٢٧٢ مليون دولار أي أن حجم الاقتصاد الكوري يصل إلي ٦ أضعاف الاقتصاد المصري، كذلك فإن متوسط دخل الفرد الان في كوريا يصل إلي ٢٦ الف دولار سنويا، وفي مصر ٣.٣١٤ دولار. ويمكن التفسير الأساسي لهذه المفارقة في نوعية قوة العمل في كلا البلدين، دعونا نتناول بعض المؤشرات علي ذلك، وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء فقد بلغت قوة العمل في يونيو ٢٠١٤، حوالي ٢٧.٥ مليون منهم ٨٦.٧٪ حوالي ٢٤ مليون مشتغل، و١٣.٣٪ »‬٣.٧ مليون»، متعطل، هذا بالمقارنة مع قوة العمل في كوريا التي بلغت ٢٥.٢ مليون، ولكن معدل البطالة لا يتعدي ٣.٤٪ والاهم من ذلك أن قوة العمل الكورية تعمل في قطاعات مرتفعة الانتاجية، ويذهب معظمها للتصدير، فقد كانت نسبة الصادرات إلي الناتج المحلي الاجمالي هي ٥٤٪ في حين كانت النسبة في مصر ١٨٪ فقط.. ويرجع ذلك إلي أن أغلبية قوة العمل الكورياة تعمل في قطاعات الصناعة والخدمات، في حين ان قوة العمل المصرية تتوجد باضراد إلي القطاعات الهامشية التي تستوعب ما يزيد علي ثلث قوة العمل في الوقت الحالي. ما المطلوب إذن؟ يتحدث العالم الآن عن ضرورة التحول المنتج productive transformation  الذي يقوم علي الاستثمار في البشر وعلي سياسات جديدة لإدارة سوق العمل تأخذ بعين الاعتبار عاملين اساسيين: الثورة التكنولوجية المستمرة، وتزايد حدة العولمة، وهذا ما سوف نحاول  الحديث عنه في الاسبوع القادم. دكتور أحمد جويلي.. وداعاً يوم الإثنين كان الدكتور أحمد جويلي في رحاب الله وإن كان هناك وصف يلخص مسيرة الرجل فهو أنه كان إنساناً محترماً ووطنيا حتي النخاع. عرفت د.جويلي في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وذلك في اطار إعداد استراتيجية للتشغيل والعدالة الاجتماعية في مصر فقد طلب وقتها الدكتور مصطفي خليل رئيس الوزراء من منظمة العمل الدولية ان تقدم دراسة عن ملامح مصر بعد الحرب، وحضرت إلي مصر بصحبة الاقتصادي السويدي الشهير »‬بنت هانسن» وكونا فريقا من خيرة أبناء مصر يقودها الدكتور عمرو محيي الدين، الاقتصادي الأشهر، وكان دور د.جويلي هو إعداد دراسة شاملة لإعادة إحياء الزراعة المصرية، وقام بإعداد فريق من الشباب وقدم دراسة رائعة مازالت صالحة للتطبيق حتي الآن.. ومنذ هذا الوقت أصبحنا أصدقاء نلتقي من وقت لآخر لنتبادل الحديث في موضوع واحد مستقبل مصر ولقد زرته وهو محافظ في دمياط، التي فتح لها مجالات للتألق كمثال للمحافظة التي لا تعرف البطالة، ثم وهو محافظ للاسماعيلية، وأمين عام لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية، ثم وهو يكافح طيور الظلام كوزير للتموين. في هذه المسيرة الحافلة لم يتخل د.جويلي عن صفتيه الأساسيتين: الصراحة القاطعة، والتفاني فيما يسند إليه من عمل. ان أعظم تكريم للدكتور/ أحمد جويلي هو أن نقدمه للأجيال الشابة كنموذج للرجال المحترمين. تصحيح ورد في مقال  الجمعة الماضية بعض الأرقام عن الناتج القومي في تركيا مقارنة بمصر، وصحة ما جاء كما يلي: ان حجم الاقتصاد التركي هو ثلاث مرات الاقتصاد المصري، فقد بلغ الناتج المحلي الاجمالي هذا العام ٨٢٠ مليار دولار مقابل ٢٧٢ مليار دولار لمصر كذلك فإن تصحيح أرقام نصيب الفرد من الناتج المحلي هو ان متوسط دخل الفرد في تركيا الآن هو ١٠٩٥٠ دولارا سنوياً وفي مصر ٣١٦٠ دولارا.