عرضنا في المقالات السابقة بعضا من مشكلات التعليم المزمنة ولكن بأسباب غير تقليدية لا يراها غير المتخصصين الذين يدعون المعرفة والذين  يحرثون البحر منذ  سنوات طويلة. وركزنا علي التعليم الفني والسبب الأساسي في سوء حاله وضعف مستوي خريجيه وانعدام الناتج منه رغم الإمكانيات الكبيرة نسبيا التي تحاول أن توفرها الدولة له ولروافد التعليم الأخري والتي يظل جزء كبير جداً من هذه الإمكانيات رهناً (للهدر   التعليمي). فنحن مازلنا نصنف وزارات التعليم بجناحيها علي أنها وزارات خدمات رغم أنها لابد أن تكون في مقدمة قطاعات الإنتاج فهي تنتج أغلي السلع  وأنفسها وهي الطاقة البشرية وهي أقدم القطاعات التي تقدم القيمة المضافة علي عقول وأجساد وأرواح البشر. لذلك فنحن لا نقيس العائد علي الاستثمار في التعليم باعتبار أنها خدمة لابد أن تُقدم دون أن ننتظر مردوداً مما أنفقناه. ولهذا أيضا فنحن ننظر لمشاكل التعليم كلٍ علي حدة ونحاول أن نجد لكل مشكلة حلاً منفصلاً فتكون النتيجة حل المشكلة ( إذا حُلت ) وخلق مشكلات أخري. فلا يمكن أن نظن أن مشكلة الثانوية العامة لاترتبط بمشكلة التعليم الفني ولايرتبط الاثنان بمشكلة كليات القمة ولا يرتبط جميعهم بمشكلة مكتب التنسيق. وبنظرة شاملة أيضا نجد أن هذا كله له علاقة بمشاكل النقابات المهنية ومحاولات تدخل مجالس بعضها في العملية التعليمية. فكل عام يرغب جميع الحاصلين علي الثانوية العامة القسم العلمي في دخول مايسمونه كليات القمة مثل كلية الطب والصيدلة وطب الأسنان (رغم أن كثيراً منهم لايصلحون لهذه الدراسة وهذه المهنة). يكون من نتائج ذلك أيضاً أن يقل مستقبلا الإقبال علي كليات القمة ويتوجه الشباب إلي التعليم الفني  ونري أن بعض النقابات تطالب بتقليل الأعداد التي تقبلها هذه الكليات ونسمع أن بعض أساتذة الجامعات يطالبون أيضا بذلك وتهدد بعض النقابات الأخري بعدم قيد خريجي كليات القمة من الجامعات الخاصة بالمخالفة للقوانين التي تحدد صلاحيات الهيئات والمجالس التعليمية وكذلك القوانين التي تنظم دور النقابات. .فتنخفض أعداد الطلاب المقبولين في هذه الكليات ويرتفع الحد الأدني  للقبول بطريقة جنونية تثير غضب الطلاب وأهاليهم علي مكتب التنسيق و وزارة التعليم العالي كما ثار غضبهم من قبل علي وزارة التربية و التعليم عند إعلان نتائج الثانوية العامة. و رغم أن بعض كليات  الطب الحكومية، إن لم تكن كلها، تزدحم بأعضاء هيئات التدريس حتي إن نسبة الطلاب إلي أعضاء هيئة التدريس في معظمهم تكون طالبين لكل عضو هيئة تدريس. و مع أن عضو هيئة التدريس بكليات الطب عليه دور علاجي بالمستشفيات الجامعية بالإضافة إلي دوره في تعليم طلابه إلا أن هذه النسبة تعتبر قليلة جداً مقارنة بأحسن النسب العالمية. فلو أن الدولة ممثلة في المجلس الأعلي للجامعات و مجالس الجامعات الحكومية ضاعفت أعداد الطلاب المقبولين بهذه الكليات، ولم تنصت لأصوات المصالح الخاصة، لتحققت رغبة كثير من الطلاب و انخفض الحد الأدني للقبول دون أن يتأثر مستوي الخريج. فقد أثبتنا من قبل ببعض الأمثلة عدم صحة الادعاءات التي تختصر تعليق أسباب ضعف المستوي العلمي علي شماعة نقص الإمكانيات فقط. وفي مقابل ذلك ترفع الدولة يدها تماما عن الالتزام بتعيين أو تكليف خريجي هذه الكليات الذين يشكون مر الشكوي من التكليف ومرتباته الهزيلة التي لا تتناسب مع ما بذلوه من جهد طوال سنوات دراستهم مع عدم استعدادهم للتنازل عن هذا التعيين أو التكليف (عين في الجنة وعين في النار). وتوجه الدولة هذه الميزانية كلها لتعيين خريجي التعلم الفني ، بعد إصلاح حاله،   بمرتبات مجزية وتوفر لهم سكنا مناسبا غير عشوائي وبذلك نحل المشكلة الاجتماعية للتعليم الفني التي شرحناها من قبل ونكون قد وفرنا للمشروعات العملاقة وللصناعة الفنيين المهرة الذين نحتاجهم لنهضة البلاد. ويكون من نتائج ذلك أيضاً أن يقل مستقبلا الإقبال علي كليات القمة ويتوجه الشباب إلي التعليم الفني والمهني ويعود التوازن المفقود إلي قطاعات التعليم المختلفة وتبدأ عجلة صناعة التعليم في الدوران في الاتجاه الصحيح. فهل يجرؤ مسئول علي طرح هذه الاقتراحات ومناقشتها وتلقي سهام الاعتراضات والمصالح الخاصة التي ستوجه إلي صدره؟!.  وللحديث بقية بإذن الله.