النيل قدم لمصر والعالم فكرة الدولة المركزية إن أهل باريس يحتفلون بنهر السين الذي لا يقارن بنهر النيل ربما لا يعرف الكثيرون أن المصريين القدماء نظروا إلي النيل علي أنه سر الحياة في مصر. كما نجد في كتب التراث الإسلامي أن أجدادنا في العصر الإسلامي كانوا يقولون إن هذا النهر ينبع من الجنة. واحتفل دومًا المصريون عبر الزمان، ومع تغير المعتقدات والأديان، بفيضان النيل سر الحياة في بر مصر. لم يقدم نهر النيل لمصر الماء فقط، وهو سر الحياة، وإنما قدم أيضًا لها وللعالم فكرة الدولة المركزية، وأقدم دولة في التاريخ. إذ استدعي تنظيم الريّ والصرف، وتوزيع حصص المياه، وصيانة الترع والجسور، ضرورة تكاتف القري والأقاليم من أجل ذلك، ولهذا ظهر الوجه القبلي والوجه البحري، والملك مينا موحد القطرين. ودون هذا النيل، إذا تخيلنا خريطة مصر لا قدر الله بدونه، تتحول مصر إلي صحراء جرداء، امتدادًا طبيعيًا لصحراء جزيرة العرب وبادية الشام والصحراء الكبري في شمال أفريقيا. لماذا تتداعي كل هذه الأفكار علي ذهني الآن؟! لأني أري أننا لا نستغل النيل الاستغلال الأمثل، بل وأهملنا الكثير من مظاهر اهتمام المصري بالنيل، هذه المظاهر التي كانت موجودة حتي وقت قريب. من منا لا يتذكر أن النيل وفروعه كان وسيلة هامة من وسائل النقل، هذا الذي عرف بالنقل النهري، والذي كان يربط الصعيد بشمال البلاد. وإلي وقتٍ ليس بالبعيد كانت مصر القديمة هي الميناء النهري للقاهرة للسفن القادمة والذاهبة إلي الصعيد، وكانت بولاق هي الميناء النهري للقاهرة من وإلي الوجه البحري. ثم توارت أهمية كل من مصر القديمة وبولاق لصالح الميناء الجديد الذي عرف بساحل روض الفرج، أو ساحل الغلال كما عرف بعد ذلك نظرًا لوصول الغلال من شتي أنحاء البلاد إليه، هذا فضلاً عن سوق السمك، وبعد ذلك سوق الخضار، وإن كان الأخير قد اعتمد أساسًا علي النقل البري. وعالجت السينما المصرية مسألة النقل النهري في واحد من أهم أفلامها وهو فيلم »صراع في النيل»‬ والذي قام ببطولته مجموعة من أهم رموز السينما آنذاك مثل رشدي أباظة وعمر الشريف وهند رستم. هذا الفيلم الذي دارت معظم أحداثه علي صفحة النيل في رحلة من أقصي الصعيد للقاهرة وبالعكس من أجل نقل بضائع للقاهرة وشراء »‬صندل» وهو المركب البخاري اللازم للنقل النهري آنذاك. كانت أجمل رحلاتنا في سنوات الطفولة هي رحلة القناطر الخيرية عبر المركب من روض الفرج، بل كان هناك خط ملاحي من روض الفرج لنقل الركاب والبضائع إلي أنحاء الدلتا. وكان طلبة جامعة القاهرة يذهبون إلي جامعتهم عبر الأتوبيس النهري الذي تواري للأسف الشديد! هل تتذكرون فيلم »‬خلي بالك من زوزو» ومنظر الطلبة وهم يستقلون الأتوبيس النهري؟ إن أهل باريس يحتفلون بنهر السين الذي لا يقارن بنهر النيل وأتذكر الأتوبيس النهري في السين وكيف تحول إلي أحد المعالم السياحية لباريس. ونتمني من محافظة القاهرة أن تهتم اهتمامًا فعليًا بهذا المشروع الذي تتحدث عنه المحافظة منذ سنوات بعيدة لإعادة الروح من جديد للأتوبيس النهري. النيل يا سادة كائن حي عمره آلاف السنين، لا يموت أبدًا فهو سر الحياة لمصر. عندما اهتم المصريون به وكان وسيلتهم المفضلة للنقل والتجارة والري والنزهة، كان ذلك مبعث ابتهاج النيل، وعندما يبتهج النيل يفيض ببهجته علي كل ربوع مصر. لكنني الآن أحس وكأن النيل يعيش حالة اكتئاب مزمنة وبدلاً من أن يفيض علينا ببهجته، أحسسنا جميعًا بالاكتئاب لأننا ابتعدنا عن تاريخنا، وعن النيل.