وربما بسبب حرص القيادة علي التكتم، واقتصار السيسي نفسه في التعبير عن ما جري بإعلانه النية في »تعديل المعاهدة»‬، بينما التعديل جري بالفعل ألف  باء الزعامة إنجاز وانحياز. والرئيس السيسي يتقدم إلي معني الزعامة الحقيقية، وبأكثر من كونه رئيسا منتخبا بما يشبه الإجماع، ويترك أثره سريعا وقويا في حركة الأحداث، فلا يستطيع منصف التنكر لضربات السيسي المتلاحقة في الداخل والخارج، وهي ضربات معلم مدروسة ومخططة بعناية، فقد أحدث فارقا نوعيا في السياسة العربية لمصر , وسياستنا العربية مرتبطة عضويا باختيارات الداخل، ومصرية مصر هي عروبة مصر بالحرف والنقطة، وأولوية مصالح مصر تعني أولوية الانفتاح علي قضايا أمتها العربية، وهذا هو قانون مصر الحاكم في دورات صعودها، وقد استطاع السيسي بلورة تصور عربي جديد لمصر، يقيم تكاملا محسوسا بين فوائض القوة العسكرية المصرية وفوائض القوة المالية الخليجية، وينتقل بحدودنا السياسية إلي شواطئ الخليج العربي، ثم يقيم قبلها ومعها صلات أمنية وعسكرية مع الجزائر أكبر أقطار المغرب العربي، ويستطلع أدوارا مستعادة لمصر في دراما الشام والعراق الدموية، ويبلور ركائز استعادة الدور المصري عربيا , ويتبني منظورا مختلفا للدور المصري علي الجبهة الفلسطينية، وبعد أن نجح في خطة استعادة السيادة العسكرية علي كامل أراضي سيناء، وبصورة لم تحدث منذ ما قبل عدوان 1967، بإلغاء المناطق منزوعة السلاح بحسب الملاحق الأمنية المهينة لما يسمي معاهدة السلام، والتي نزعت سلاح غالب سيناء بعمق مئة وخمسين كيلو مترا، وقد صار ذلك كله شيئا من الماضي الأليم، فقد نجحت قيادة السيسي للجيش ـ ثم للدولة ـ في قلب المائدة، وفي تحطيم القيود دفعة واحدة، بذكاء استخدام دواعي تصفية جماعات الإرهاب في شرق سيناء، وهو ما سهل نقل قواتنا إلي الشرق دون معارضة إسرائيلية ظاهرة، فيما أملت تل أبيب أن يكون حدثا موقوتا، لكن التطور العسكري الدرامي صار حقيقة دائمة , فقد ذهب جيشنا إلي سيناء ليبقي، واستعاد سيادتنا كاملة ودائمة، وفاز التكتيك الوطني الذكي الذي تبناه السيسي، ونفذه باقتدار وصمت وثقة، واستعاد الجيش المصري وجوده القوي الكثيف علي حدود مصر التاريخية مع فلسطين المحتلة.   وقد لا يلتفت كثيرون إلي إنجاز السيسي الباهر في سيناء، ربما بسبب نقص الدراية، وعادات الجهالة الطافحة في وسائل إعلامنا، وربما بسبب حرص القيادة علي التكتم، واقتصار السيسي نفسه في التعبير عن ما جري بإعلانه النية في »‬تعديل المعاهدة»، بينما التعديل جري بالفعل، ودونما صخب ولا ضجيج، ولم يعد لإسرائيل سوي أن تعترف بالأمر الواقع، والذي يعد كسبا لمزيد من الاستقلال الوطني الحقيقي، جعل الإدارة المصرية الجديدة في حال اللامبالاة بتهديدات خفض أو قطع المعونة الأمريكية، فانقطاع المعونة المسمومة مكسب عظيم لاستقلالنا الوطني، ويحطم قيودا ثقيلة علي حرية تسليح الجيش والصناعات الحربية , ويمكننا من إعادة بناء دورنا السياسي والاقتصادي والحضاري في منطقتنا العربية، وقد لجأ السيسي مع الأمريكيين إلي ذات التكتيك الذي عمل به مع الإسرائيليين، وفرض أمرا واقعا جديدا في السياسة المصرية، وأخرجها من سجن التبعية للإدارة الأمريكية، وانفتح بها علي عالم جديد متعدد الأقطاب في الاقتصاد والسلاح، وباعتبارات الحاجة والمصالح المصرية دون سواها، وهو ما بدا ظاهرا في ضربة السيسي الروسية، والتي أعد لها منذ كان وزيرا للدفاع، وبعد إزاحة ثورة الشعب لحكم الإخوان في 30 يونيو 2013، ونشأة كيمياء شخصية فريدة بين السيسي والزعيم الروسي فلاديمير بوتين، وكانت زيارة السيسي الأخيرة لموسكو أهم تحول في موازين المنطقة، فقد زادت في مقدرة مصر الجديدة، وفي اكتساب ركائز التطور في السلاح والاقتصاد والصناعة والطاقة النووية، وبدا مغزاها التاريخي هائلا، خاصة أنها جرت بعد زيارة توثيق العهود مع العاهل السعودي، وبعد إشارة البدء التي أطلقها السيسي لمشروع قناة السويس الثانية، وهو مشروع القرن المصري الجديد.   نعم، انجازات السيسي حقيقة لا تخطئها العين، لكن الزعامة انحياز فوق الانجاز، والانحياز هو الذي يعطي الزعامة عمقها الشعبي، وللرجل شعبية غير مسبوقة في مداها منذ زمن جمال عبد الناصر، وقد استدعته شعبيته ومقاديره إلي مهمة الرئاسة، وبأمل عظيم عند الناس أن ينتصف لهم، وأن يعبر بمصر من حالة الانحطاط التاريخي المتصلة لأربعين سنة، وبدا السيسي جاهزا لقبول المهمة، وعارفا بأوجاع البلد، وبتعقيدات مهمة الإنقاذ، ومصمما علي نجاح بلا بديل، وتلاحقت ضرباته القوية السريعة، تبشر بإنجاز وارد التحقق، وتزيد ثقة الناس الضمنية فيه، ومع حالة تشوش منظورة، تعيق التواصل والتفاعل المباشر بين ضربات السيسي ووجدان الناس في هذه اللحظة، فقد زادت متاعب الفقراء والطبقات الوسطي بعد قرارت خفض الدعم، وتفاقم انهيار الخدمات الأساسية مع انقطاعات المياه والكهرباء وتردي نظام التموين، وبدت إجراءات العدالة الاجتماعية غاية في البطء والتعثر، صحيح أنه جرت مضاعفة معاشات الضمان الاجتماعي، وجري إقرار حد أقصي للأجور، لكنها من نوع الاجراءات غير المحسوسة مباشرة عند عموم الناس، والذين دفعوا الفواتير كاملة، انتظارا لعدالة تأخرت مواعيدها، فلم تجر بعد أي مواجهة شاملة مع امبراطوريات الفساد في جهاز الدولة والمحليات، وتباطأت خطي مواجهات السيسي الموعودة مع حيتان النهب العام، وظل صندوق »‬تحيا مصر» خاويا إلا من قليل، لا تأتي إليه المئة مليار جنيه التي توقعها السيسي، والذي لجأ إلي مناشدات أخلاقية لا تصادف محلها، وإلي ما يتصوره الناس تدليلا لطبقة رجال الأعمال النهابين، والذين ضاق السيسي نفسه بمماطلاتهم، وتأخرهم في سداد الدين المستحق للشعب المصري، وإلي درجة دفعت السيسي إلي الانتقال من مرحلة المناشدة إلي مرحلة الإنذار، وإلي مخاطبة مليارديرات النهب بقوله »‬هتدفعوا يعني هتدفعوا»، والشعب المصري ينتظر أن ينفذ السيسي إنذاره، وأن يسترد للبلد ثرواته المنهوبة، وأن يكسب لزعامته الصاعدة انحيازا يليق بها، ويسند بوادر إنجازاتها.