كنت في انتظاره علي باب الطائرة وصافحته قائلاً: ــ أهلاً.. يا مصطفي. فإذا به ينحني.. هامساً في أذني قائلاً: ــ ماتقوليش.. يا مصطفي! يعجز القلم عن الكتابة عن مصطفي حسين.. الذي اتصل بي في 14 أبريل 2014.. ودار بيننا حوار عجيب.. أستشعر منه استعادة مفرداته الآن.. بأنها كانت مكالمة وداع!.. هل يعلم الإنسان باقتراب النهاية؟.. الله أعلم!.. بعد هذه المكالمة.. التي تنطق كل كلمة قالها مصطفي.. بأنها كانت مكالمة وداع.. سافر للعلاج بالخارج.. وتوقفت الاتصالات إلا أن سكرتيره إيهاب.. كان يواظب علي الاتصال.. ويشير في كل مرة لتدهور الحالة. ولا أود في هذه العجالة العودة لذكريات صداقة بدأت في »مجلة التحرير»‬ التي كان يرأس تحريرها يوسف السباعي سنة 1954.. ولم تنقطع يوماً.. حيث كنا نمضي اجازاتنا السنوية في قرية »‬التنكيرشه» بولاية بافاريا الألمانية.. حيث كان يقيم وأسرته مع طفله »‬عصام» بمنزل فلاحة ألمانية.. وكنت أقيم مع أسرتي لدي فلاحة أخري.. وكانت هذه الزيارات تحتل مانشيتات صحيفة القرية.. وكان عمدة القرية يستقبلنا في مكتبه بحفاوة.. دعمتها علاقة الود بين العمدة وبين مصطفي. وإذا تأملنا رحلة حياة مصطفي حسين.. منذ اكتشاف الأستاذ عدلي مدرس الرسم بالمدرسة الابتدائية.. موهبته المبهرة نجد أنها رحلة تسجيل دقيق وتفصيلي لتاريخنا الحديث.. من خلال رسومه ومن خلال الملامح السياسية لكل رحلة.. وبالتالي يمكن اعتبار رسوم مصطفي حسين.. إلي جانب طابعها الإبداعي المميز.. تاريخاً.. لا تشوبه شائبة التزوير والتدليس والنفاق. كانت رسوم مصطفي حسين.. في مرحلة الستينيات.. التي عشناها معاً.. كأعضاء في التنظيم الطليعي الذي شكله الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.. كي يختار من يقع عليه الانتقاء لغلق الأبواب.. أمام أهل النفاق.. تعبر عن الواقع بأمانة وشجاعة.. وكان مصطفي علي درجة عالية من الوعي بحيث يعرف ما الذي يجب رسمه من خلال الظروف السائدة في البلد.. ولاسيما في الفترة التي كان يساير فيها جمال عبدالناصر.. الإخوان.. الذين مارسوا ضده كل ألوان الغدر، فبدأ يساير اليسار.. بجانب زعامته علي مستوي الوطن العربي.. مما ساعد علي نهضة الشخصية العربية.. ولكن كان هناك خلاف بين القيادة السياسية في مصر.. وبعض القيادات العربية.. التي تجلت في رسوم مصطفي حسين. كما سجلت رسوم الفنان الراحل مرحلة حسني مبارك التي شهدت العديد من التحولات.. والتي ظهرت فيها الشخصيات التي ابتدعها أحمد رجب.. بظهور قاسم السماوي وكمبورة وعزيز بك الأليت وعبدالروتين.. وعلي الكومندا.. وعبده مشتاق.. وأبو المعاطي البيروقراطي.. والكحيتي.. وفلاح كفر الهنادوة.. وعباس العرسة. وهي الفترة التي شهدت الخلاف مع معمر القذافي الذي كان يظهر في رسوم مصطفي حسين.. بالقصرية.. والتي أدت لإصدار القذافي أوامر باغتيال مصطفي حسين. في سنة 1978.. كنت في انتظار مصطفي حسين بمطار فرانكفورت.. ونزل مصطفي وكنت في انتظاره علي باب الطائرة وصافحته قائلاً: ــ أهلاً.. يا مصطفي.. فإذا به ينحني.. هامساً في أذني قائلاً: ــ ماتقوليش.. يا مصطفي!.. وسط دهشتي البالغة سألته: ــ ليه؟ قال: ــ هقول لك بعدين.. مش دلوقتي. شعرت لحظتها.. ولأول مرة.. أنني أتحدث لرئيس عصابة.. واتجهنا لسيارتي.. وقلبي يرتجف.. وأدرت الموتور.. وخرجنا إلي الطريق السريع.. وسألت مصطفي حسين. فقال لي: ــ أنا اسمي محمد المصري. وقدم لي جواز سفره.. وهو يحمل اسم محمد المصري.. أما الصورة فهي صورته.. بلحمه ودمه.. وعدت أسأل: ــ أنت زورت جواز السفر.. كمان؟ قال ببساطة: ــ لأ.. دي الجوازات! وقال لي إن لدي السلطات الأمنية في مصر معلومات بأن القذافي ينوي اغتيالي. قلت له ضاحكاً: ــ يعني انت لما يكون اسمك في جواز السفر »‬عطيات» الناس مش.. هاتعرفك؟.. وضحكنا.. عندما كان الضحك ميسوراً.. في هذا الزمن الجميل.. لم يكن الرسم حراماً.. ولا الضحك أيضاً. علي كل حال المبدعون.. لا يموتون.. إنهم يعيشون داخلنا.. وسوف يظل مصطفي حسين بداخلنا إلي أن نلقاه قريباً.. بإذن الله.