من هذا المنظور رأيت أن أتناول بشيء من التحليل ما يمكن أن يعنيه انتخاب تركيا الجديد بالنسبة لمصر، وسوف أركز بطبيعة الحال علي الناحية الاقتصادية، تاركاً الأبعاد السياسية للمتخصصين فيها. في   الاسبوعين الماضيين حاولنا أن نقدم مساهمة في رؤية مستقبلية للاقتصاد المصري، وذهبنا إلي أن ما تحتاجه مصر هو طفرة - وليس تغييراً تقليدياً - عن طريق التحول الكبير، ثم رأينا كيف أن هذا التحول ممكن خاصة مع تدشين أحد المشروعات العملاقة وهو مشروع تنمية قناة السويس، وفي هذا المقال ألتمس من القارئ عذراً بالتوقف عن تطور مهم في المنطقة أعتقد أنه سوف يؤثر علي مسار الأحداث في الأعوام القادمة، وهو انتخاب رجب طيب أردوغان رئيساً لتركيا، وسوف أعود لموضوع التحول الكبير في الاسبوع القادم. والسبب في توقفي عند هذا الحدث أن توابعه سوف تجعل من التحول الكبير في مصر ضرورة ملحة. لقد ثار الجدل في مصر حول طرح الرئيس السيسي - في لقائه مع المفكرين والإعلاميين - لفكرة المخاطر التي تحوط بنا، وضرورة التنبه لها - وقد ذهب البعض إلي أن هذا الطرح هو من قبيل الترهيب ومحاولة لوأد الرأي الآخر، ولكنني أراه حقيقة واقعة يجب أن نتحسب لها بطريقة عقلانية، فلقد أصبحت السياسات العامة الآن هي في جوهرها طريقة لإدارة المخاطر، ولقد قامت الدول المتقدمة وكذلك الاقتصادات الناشئة بإنشاء مؤسسات متخصصة علي أعلي مستوي لرسم سيناريوهات للمخاطر المحتملة وطريقة مجابهتها، ومن هنا فإن إدارة الأزمات لا تأتي متأخرة - كما هو الحال عندنا - ولكن تأتي في إطار من التوقع المحتمل. من هذا المنظور رأيت أن أتناول بشيء من التحليل ما يمكن أن يعنيه انتخاب تركيا الجديد بالنسبة لمصر، وسوف أركز بطبيعة الحال علي الناحية الاقتصادية، تاركاً الأبعاد السياسية للمتخصصين فيها. بداية فإن التحول السياسي في تركيا ليس تحولاً عادياً، فهناك انقسام في الشارع التركي ظهر أثره في حصول الرئيس الجديد علي ٥١.٨٪ من الأصوات، ولكن في المقابل نحن أمام شخصية صدامية ذات أحلام واسعة وسوف يستخدم كرسي الرئاسة للضغط علي معارضيه داخلياً، ومحاولة تعظيم ومد تركيا كقوة إقليمية قد يفوق دورها إسرائيل وإيران! بالإضافة إلي ذلك فقد ذهب كثير من المراقبين الدوليين إلي أن أردوغان يطمح في أن يكون السلطان العثماني الجديد معتمداً علي قاعدة اقتصادية لا بأس بها وكذلك علي دور جديد تلعبه تركيا في اطار السياسة الأمريكية لتشكيل شرق أوسط جديد بعد فشلها في القفز علي »ثورات الربيع العربي« لإقامة حكومات ممن يسمونهم «الإسلاميين المعتدلين» وذلك لضمان تدفق ثروات هذه المنطقة وخاصة البترول. ومن الناحية الاقتصادية، فقد شهدت تركيا فترة من النمو السريع خلال العقد الماضي وذلك بفضل طفرة كبيرة في التصنيع من أجل التصدير معتمدة في ذلك علي قوة عمل مدربة عائدة من أوروبا - خاصة ألمانيا - ووجود فراغ في المنطقة نتيجة عدم استقرار معظم الدول العربية، بل إن معدل نمو الصادرات التركية للدول العربية يفوق معدل نمو صادراتها لأي منطقة أخري حتي الآن. وقد نجحت تركيا في طرح نفسها كبلد يلتزم بمعايير الاتحاد الأوروبي - وإن كانت ليس عضواً بعد - مما سهل استفادتها من سياسات الشراكة الأوروبية واليورو - متوسطية. ان حديث المخاطر يستدعي ان ننظر إلي بعض المؤشرات المؤثرة في القوة الاقتصادية لتركيا بالمقارنة مع مصر.. وذلك لكي نعي حجم الطفرة التي ينبغي أن نقوم بها حتي تنافس تلك القوة الصاعدة أولاً فإن حجم الاقتصاد التركي هو مرة ونصف الاقتصاد المصري، فقد بلغ الناتج المحلي الاجمالي هذا العام ١٣٤٤.٣ مليار دولار مقابل ٨٦٢.٥ مليار دولار لمصر. كذلك فإن ترتيب تركيا وفقاً لمقياس التنافسية هو ٤٤ من ١٤٨ دولة، في حين جاءت مصر في المرتبة ١١٨ أما من ناحية التنمية البشرية، فقد كانت تركيا هذا العام في مصاف الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة «بترتيب ٦٩» في حين ترتيب مصر ١١٠ مما وضعها في فئة الدول متوسطة التنمية البشرية وانعكس ذلك في أن متوسط عدد سنوات الدراسة بين الأتراك هو ٧.٦ سنة، وفي مصر ٦.٤ سنة. وقد أدي ذلك كله إلي أن متوسط دخل الفرد في تركيا الآن هو 18.5 مليون دولار سنويا، وفي مصر 10.4 مليون دولار. هذه هي بعض الملامح للقاعدة الاقتصادية التي سوف يستند إليها الرئيس الجديد في صياغة الدور «الامبراطوري» الذي يحلم به. وليس معني ذلك انه لا توجد مشاكل اقتصادية في تركيا، فالبطالة في تزايد وبلغت 17.5٪ بين الشباب. والفوارق بين الدخول أكثر حدة مما كانت عليه في أي وقت مضي، كذلك فإن حجم الدين الخارجي «16٪ من الناتج القومي» بدأ في إضافة أعباء جديدة علي الحكومة. ولكن تركيا تتأهب الآن لإحداث نقلة نوعية في دورها الإقليمي معتمدة علي صياغة علاقات أكثر قربا من الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بعد تراجع حرص تركيا علي الانضمام للاتحاد الأوروبي، تري تركيا انها مؤهلة أكثر من غيرها في لعب دور الدولة المستقرة، ذات الأغلبية السنية المناوئة لإيران والتي تستطيع ان تساعد الإدارة الأمريكية في تنفيذ سياستها في الشرق الأوسط بعد ثورة 30 يونيو في مصر. لن يكون دور تركيا هذه المرة هو طرح «النموذج التركي» كصيغة توليفية للإسلام والعلمانية، وإنما المساعدة في دعم الحركات والجماعات التي تعمل علي زعزعة الاستقرار في المنطقة خاصة في مصر والسعودية. ويتفق ذلك مع توجهات الإدارة الأمريكية، ولقد لخصها الرئيس أوباما في حديث تليفزيوني مطول مع الصحفي الشهير توماس فريدمان «صاحب كتاب الأرض مسطحة وليست مستديرة» ولقد جاء هذا الحديث الذي نشر في جريدة «انترناشيونال نيويورك تايمز» يوم الاثنين 11 أغسطس، كاشفا عن هذه التوجهات. أولا، كان عنوان الحديث «أوباما يتحدث عن العالم» ولكن الحديث كله تقريبا كان منصبا علي منطقة الشرق الأوسط، وثانيا أوضح موقف أوباما بأنه لن يتدخل في أي دولة إلا إذا كانت هناك قوي ترغب في التغيير وتطلب المساعدة. وبعيدا عن حديث المؤامرة، فمن حقنا ان نتساءل عن هذه القوي التي ستحدث التغيير، ومن سوف يساعد؟ وكيف؟ هنا يكمن الدور التركي المرتقب. إذا صح هذا التحليل، فماذا نحن فاعلون؟ أعود للموضوع الرئيسي الذي بدأت به من اسبوعين مع اضافة مهمة وهي ان التحول الكبير الذي ندعو إليه قد انتقل من منطقة الرؤية إلي منطقة الضرورة، نحن لا نعيش بمعزل عما حولنا ولقد علمنا التاريخ ان أي انجاز مهم في مصر تم انتزاعه في وجود قوي خارجية يجب ان نفهمها ونتعامل معها بحيث لا نحيد عن الهدف المنشود. وهو ما سوف نعود له في رسم ملامح القوي الكبيرة في الاقتصاد المصري.