الاسبوع الماضي في تناول مشكلة التعليم الفني وذكرنا أن الكثيرين يدعون أن أسباب ضعف مستوي التعليم في مصر عامة والتعليم الفني خاصة هي الأسباب التقليدية التي يذكرها غير المتخصصين في التعليم الذين يعملون للأسف في مجال التعليم مثل المناهج والإمكانيات وغيرها. وقد سردنا بعض الأمثلة التي تثبت أن هذا التناول للمشكلة بعيد كثيراً عن الواقع وعندما يجري وراءه بعض المسئولين فإنه لا يؤدي إلي حل جذري بل في بعض الأحيان يزيد الفجوة بين الواقع والمأمول. و الحقيقة أن إنشاء وزارات جديدة وهيئات جديدة وجامعات جديدة ،قبل الإعداد الجيد جداً لها واستكمال مقوماتها وتحديد أهدافها، نتيجته تعيين أناس في وظائف عليا وشراء سيارات لسيادتهم وتعيين سكرتارية وعمالة معاونة لخدمتهم ومبان لاستيعابهم ويبقي الأداء كما كان والخدمة المقدمة كما هي ويزداد الإنفاق وتتحمل موازنة الدولة أعباء إضافية دون عائد. لهذا كان مقالي السابق بعنوان »قبل وزارة التعليم الفني»‬. و قصدت بذلك أن نحدد المشاكل والحلول والأهداف قبل أن ننشئ وزارة من النهاية دون بداية صحيحة تنتهي بنا إلي ما نراه الآن من فصول أو  فروع لجامعات تحولت إلي جامعات دون أي إضافة ودون أي  تحسن في نوعية الخريج أو زيادة في مهاراته. وكذلك أنشئت هيئات ومجالس دون دراسة متأنية فأصبحت تكرارا ونسخا من كيانات أخري ولم تضف أي جديد. فمشكلة التعليم الفني هي بالدرجة الأولي مشكلة إجتماعية. فأغلب المجتمع ينظر - وهو مخطئ بلا شك - نظرة دونية إلي خريجي التعليم الفني. ولا يرغب كثير من المصريين في إلحاق أبنائهم بالتعليم الفني. ولا يرضي أحد بزواج ابنته (أو حتي ابنه) من متخرج من التعليم الفني مهما كان مستواه المادي ومهما كان حسبه ونسبه لأنه في الحقيقة غير متعلم ولايملك شهادة يستطيع وضعها في برواز وتعليقها علي الحائط كما اعتاد الناس في التعامل مع شهاداتهم !!  وهذه مشكلة اجتماعية لاتحتاج الي وزارة جديدة لحلها، بل تحتاج الي حل قبل أن نفكر في إنشاء وزارة جديدة. والحل هنا أن تبدأ الدولة في تمييز خريجي التعليم الفني، فمثلا تكون لهم الأولوية في إسكان الشباب، وتضمن لهم وظيفه بدخل جيد فور تخرجهم، وتكفل لهم رعاية طبية واجتماعي متميزة. وهنا طبعا سوف يعترض البعض علي أن هذا الكلام يعني إهمال نفس الرعاية بالنسبة لخريجي انواع التعليم الاخري، وأقول لهؤلاء أن الدولة في حاجة اكبر لخريج التعليم الفني الماهر الآن وفي المستقبل، بينما هناك فائض  في عدد الأطباء البشريين  وأطباء الأسنان والصيادلة وغيرهم من حملة المؤهلات العليا  فوق حاجة العمل، أو علي الأقل هناك خلاف بين أصحاب المصالح المتعارضة. فمنهم من يدعي أن لدينا احتياجا من أصحاب  هذه  المهن ومنهم من لا يريد أن يزاحمه خريجون جدد في الرزق الوفير وهم يتناسون أن الرزق بيد الله. فلامانع إطلاقا أن تضع الدولة ميزات تنافسية للفئة التي تحتاج إليها، ولو لعدة سنوات حتي يستقيم الأمر ويعود التوازن المفقود حاليا بين فئات المجتمع. فالخدمة الطبية في مصر -علي سبيل المثال - تعاني خللا كبيرا، والمستشفيات تحتاج بشدة لممرضين وممرضات أكفاء أكثر مما تحتاج لأطباء جدد، ولو أن الدولة اهتمت بخريج التمريض علي النحو السابق ذكره، ومنحته شقة في مساكن الشباب، وبالطبع ستضمن له وظيفه في مستشفي بدخل جيد، ستكون له ميزه أكبر من الأطباء الذين تعلم الدولة علم اليقين ان هناك تضخما في أعدادهم لدرجه ان بعضهم يتخرج فيضطر للعمل كمندوب مبيعات لمستحضرات التجميل بعدما تكبدت الدولة مئات الالوف من الجنيهات في تعليمه. إن التعليم لايمكن ان يتم أبداً بمعزل عن رؤية الدولة المستقبلية، وحسب المعلن في خطط الدولة فإنها تحتاج لفنيين مهرة في المستقبل، ومن المؤكد أن مجرد إنشاء وزارة للتعليم الفني لن يحقق هذا الهدف علي الإطلاق دون النظر لكل ابعاد المشكلة. وللحديث بقية بإذن الله.