نعم ها هنا كنت أقف منذ حوالي أربعين عاما أمام كنيسة سانت تريزا في شبرا أشاهد دموع المرأة التي طلبت حق اللجوء إلي الله وفارقت الحياة وهي توقد الشموع!...)
الأسبوع الماضي أوقعني سائق الأخبار في مأزق عاطفي دون أن يدري أو يقصد..!
اقتحم السائق شوارع شبرا هربا من زحام وتكدس المرور وبحثا عن ثغرة يوصلني من خلالها إلي بيتي.. وفجأة وجدت نفسي علي بُعد أمتار قليلة من كنيسة «سانت تريزا» بشبرا، وكأن عقارب الساعة توقفت ليسرع الزمن إلي الخلف ويستدعي من خزينة الذكريات أحداثا كانت تنبض أمامي كأنها وليدة اللحظة.. فاجأني زميلي المصور الصحفي الكبير أحمد عبدالعزيز ذات يوم بسؤال مباغت:
> هل تريد أن تشاهد دموعا لا تنساها مدي الحياة؟!
>> معك صورة يا صديقي؟!
> لا.. سوف تراها علي الطبيعة.. وتري صاحبتها من حيث لا ترانا هي.. إنها دموع نجمة كانت في مقدمة نجوم مصر.. صفق لها الملايين وحرص زعماء وملوك العالم علي رؤيتها قبل أن تغدر بها الأيام لتعيش آخر العمر مع دموعها.. ركبت أحدث السيارات وامتلكت قصرا وعوامة علي النيل ورصيدا هائلا في البنوك وطاردتها الأضواء والشهرة حيثما ذهبت!
كنت في مقتبل حياتي الصحفية حينما سمعت هذه المقدمة من صديقي المصور الفنان الذي كان يسبقني في صاحبة الجلالة بسنوات.. عرفت منه أن صاحبة الدموع تريد أن تودع حياتها وهي داخل الكنيسة التي يمر من أمامها يوميا.. وعرفت منه - أيضا - أنه سمع منها ما لم يعرفه أحد عنها من قبل ولن تبوح به لأحد من بعد بل وافقت علي أن تخصه وحده بأن يلتقط لها صورتين فقط بشرط ألا ينشرهما إلا بعد وفاتها!
واشترط أحمد شرطا وجهه لي:
> لو عايز تروح معايا تصحي بدري وتقابلني هناك!
وما أن أشرق ضوء الفجر حتي هرولت إلي هناك حيث ينتظرني أحمد عبدالعزيز زميلي الأكبر مني سنا وخبرة.. وقفت أمام حكمت فهمي في ذهول.. رغم وجهها الشاحب إلا أنه عجز عن إخفاء بقايا جمال..!.. ورغم نظراتها المنكسرة إلا أن عينيها كانتا تحملان بريق حب قديم دمر حياتها، فالحب الذي قد يكون جنة ذات يوم قد ينقلب إلي جحيم في يوم آخر.. وها هي لن تتحدث إلا عن سر أسرارها وحكايتها مع الحب الذي انتهي بها إلي الاحتماء بالكنيسة وطلب حق اللجوء إلي الله!
إنها النجمة التي كانت يشار إليها بالبنان.. وأول راقصة تحصل علي لقب «مس ايجيبت».. وأول فنانة يطلقون عليها «سلطانة الغرام»، وكان الشاعر الكبير أحمد رامي هو الذي أطلق عليها هذا اللقب في أحد دواوينه!!.. وكانت أيضا أول راقصة تبهر ملوك العالم وزعمائه.. رقصت أمام هتلر وتشرشل وملك اليونان والرئيس الأمريكي روزفلت وغيرهم من ملوك ورؤساء الدول الذين كانوا يطلبونها بالاسم لترقص أمامهم!،، بدأت ممثلة صغيرة وانتهت راقصة تتقاضي أعلي أجر في العالم العربي، تملك عوامة علي النيل وفيلا في الدقي ورصيدا ضخما في البنوك.. إنها حكمت فهمي!
مأساتها انها أحبت بصدق.. وحينما تحب المرأة بصدق لا تري من الدنيا الا حبيبها ولا تسمع إلا صوته ولا تثق إلا فيه.. نسيت الفنانة الكبيرة ان للحب أيضا خطايا وكما يكون نعمة اليوم قد يصبح نقمة الغد!.. فجأة ألقوا القبض عليها لتجد نفسها نزيلة سجن الأجانب بالزيتون بينما يختفي الحبيب الذي دمر حياتها دون ان تعلم انه جاسوس!.. يمر عام وراء عام وحكمت فهمي غارقة في البكاء بعد ان سقطت في مستنقع السجون انها غلطة قلب نقي في حب رجل لم يكن في وفاء الكلب!
أدركت حكمت داخل السجن حجم الخطأ الذي ارتكبته حينما وقعت في غرام شاب الماني من أصل مصري.. أحبته بجنون.. خطفته من كل المعجبات به سواء في المانيا أو مصر فالشاب كان فارس أحلام كل امرأة تقع في طريقه أو ترتمي بين ذراعيه!.. أدركت الراقصة التي أحبها كل الرجال وكبار شخصيات الدولة أن هذا المصير كان يجب أن تتوقعه منذ اللحظة الأولي التي ارتابت فيها من تصرفات هذا «الحبيب» الذي كان يمتلك مقومات الرجل «الساحر» الذي لا تعرف أسراره غير النساء!. كانت ضعيفة أمام كل طلباته وتصرفاته الغريبة وجهاز اللاسلكي الذي اكتشفته معه ذات ليلة!.. أعماها حبها الكبير وعشقها المريض لهذا الشاب عن حقيقته وتجسسه لصالح الألمان ضد الانجليز الذين يحتلون مصر ويحاربون الألمان. ربما كان انتماؤها لهذا الرجل أكبر من انتمائها لأي شيء اخر.. ربما جعلتها قبلاته خاتما في اصبعه فتصرفت معه كامرأة مسلوبة الارادة!
أفرجوا عنها بعد عامين ونصف العام!
خرجت من السجن فلم تجد من ثروتها غير القليل بعد أن باعت العوامة والفيلا.. تخلي عنها أصدقاؤها.. غدر بها الجميع، لكن حلم المجد والشهرة لم يفارقها.. أرادت أن تسترد عرشها بفيلم كبير وضخم.. رصدت له كل ما تملك وتبقي في حسابها.. لكن الفيلم فشل بجدارة وأنهي أسطورتها وشطب تاريخها.. عادت للرقص فانصرفت عنها الجماهير.. لم تصدق نفسها فراحت تتردد علي الملاهي الليلية حيث كان الرجال يركعون علي قدميها فتجاهلها الجميع.. أسرفت في الخمور والسكر والجلوس فوق مقاعد البارات فلم تلفت انتباه أحد.. عادت إلي فساتينها العارية واقتحمت الليل فلم تجد عيون المعجبين تتلصص علي جمالها!
ضاعت ثروتها.. وهجرها البريق.. وأبلغها أصحاب الملاهي أنها لم تعد مرغوبة لدي الجماهير!.. ومرت بها السنوات وهي تفكر بعمق كيف تواجه حكم الزمن فلم تجد أمامها سوي طريق واحد.!!
أقلعت عن تعاطي الخمور ورضيت بالفقر واحتمت بالكنيسة.. ذهبت في نهاية عمرها إلي كنيسة سانت تريزا بشبرا.. سألت عن القس «يوحنا» فقالوا لها أنه مات.. صدمتها المفاجأة.!!.. ترسخ في أعماقها درس النهاية فالدنيا لا أمان لها.. ولا دوام الا لله.. قررت حكمت أن يكون معظم وقتها داخل الكنيسة.. أمام الصليب تضيء الشموع.. تطلب المغفرة.. وتبكي.. ظلت سنوات وسنوات علي هذا الحال.. رواد الكنيسة لم يعد أحد منهم يعرف سر المرأة الباكية المحتمية بالكنيسة، لا أحد منهم يعرف ان التي تشعل الشموع داخل الكنيسة وتطلب الغفران ليل نهار كانت أجمل وأشهر فنانات مصر قبل أن تغدر بها الأيام.. سلطانة الغرام ألقت بالماضي خلف ظهرها ورضيت بالنهاية، خادمة كنيسة شبرا الشهيرة!!
نعم.. ها هنا كنت أقف منذ حوالي أربعين عاما أمام كنيسة سانت تريزا أشاهد دموع المرأة التي طلبت حق اللجوء إلي الله وفارقت الحياة بعد أسابيع قليلة من هذا اللقاء!
آخر ليلة
ومن شبرا إلي حي السكاكيني يا قلب احزن..!
ذهبت ذات يوم إلي هذا الحي في مهمة كنت أعتقد أنها مأمورية صحفية بتكليف من أستاذي الكاتب الكبير لكنه صارحني في آخر لحظة:
هذه مهمة شخصية أريد أن أساعد من خلالها صديقي الشاعر المعروف قبل خراب بيته.. وربما أيضا تكون حبيبته بريئة تستحق التضحية!.. واخترتك لانك تسكن بالقرب من هذه المرأة!
كان المطلوب مني معلومات عن فتاة تعمل في الاعلانات التليفزيونية وحينما سألت أستاذي الكبير عن نوع المعلومات المطلوبة أجابني بسرعة ودون تردد: «كل شيء.. سمعتها وسيرتها وأسرتها.. أي معلومات قد تكون مفيدة لي ولو كانت من وجهة نظرك تافهة!
ذهبت إلي صديقي أحمد الذي يسكن في نفس الشارع الذي تسكن فيه الفتاة ويحمل رقم «64».. بادرته في لهفة:
علي فكرة هذه ليست زيارة.. أرجوك ساعدني في الاجابة علي سؤال محدد.. ورحت اصف له أهمية السؤال عن جارته سامية.. وإذا به ينفجر في وجهي:
> اوعي يكون حد معرفتك ناوي يتجوزها؟!!
وحينما رأي دهشتي استطرد مؤكدا انها فتاة منبوذة من أهل الحي.. أبوها ضبط أمها متلبسة بالخيانة فأصيب بصدمة ونقل لمستشفي الأمراض العقلية، وأمها هربت مع عشيقها.. أما هي فتعيش بمفردها.... تخرج في الصباح ولا تعود إلا في الثالثة فجرا.. أحيانا تعود مخمورة ودائما تعود بسيارة يقودها رجل!!
أسرعت بالمعلومات إلي أستاذي الكبير.. فإذا به ينتفض من مقعده في غضب وهو يصيح في حزن:
كيف يريد هذا المجنون أن يتزوجها؟!
تجرأت وسألت أستاذي:
من هو؟!
واحد من أكبر الشعراء.. لقد حكي لي قصته معها وكيف تعرف عليها بالصدفة.. وكيف وقع في غرامها حتي بعد أن عرف أنها تتسول التمثيل في الاعلانات، أقنعها بالزواج منه بعد دلال وممانعة وشروط بأن يكتب لها شقة باسمها ويستثمر اسمه الكبير في أن يقدمها لأدوار البطولة السينمائية!.. تزوجا سرا رغم أنه متزوج وله ثلاثة أولاد!.. مجنون..!
قاطعت أستاذي بسؤال آخر:
ماذا يفيد السؤال عنها بعد أن تزوجها؟
واجابني الكاتب الكبير في أسي:
جاءني غاضبا بعد زواجه منها وأخبرني أن الحاقدين يروجون الشائعات ضد سامية حتي أن مجهولا كتب إليه يرجوه أن يسأل عنها قبل أن تلطخ اسمه مع كل يوم يمضي وهي في عصمته! كان يحدثني كأنه طفل يريدون أن يحرموه من لعبته المفضلة، وحينما نصحته ألا يتجاهل ما يقوله الناس.. ثار في وجهي وطلب مني أن أتولي هذه المهمة بنفسي حتي أتأكد أنهم يظلمون سامية.. الآن سوف أخبره بالحقيقة التي أتيتني بها وليته يقتنع!
مضي عام دون أن أعرف تفاصيل ما حدث للشاعر الكبير «فلم يكن من الذوق أن أفاتح أستاذي الكبير في موضوعات شخصية تهم أحد أصدقائه، لكنه ذات مساء ونحن في سهرة الطبعة الثانية بالأخبار فوجئت به يسألني:
فاكر يا رجب الشاعر الذي تهز قصائده العالم العربي؟!
الذي تزوج فتاة السكاكيني سرا؟!!
نعم هو..!
وهل صارحته يا أستاذ بالمعلومات إياها؟!
نعم.. وليلتها أسرع إلي سامية وواجهها بالحقيقة قأقنعته بالبكاء بأن كل ما سمعه كذبا!
الغريب أن العاشق المجنون لم يكن بمقدوره أن يحاسبها بعد أن صارت زوجته، وبعد أن منحها فرصة العمر في أربعة أفلام، فشلت فيها جميعا بامتياز!! لكنه مع الوقت بدأ يكتشف حقائق أخري بنفسه حتي أصابته إحدي الصدمات بالشلل التام فسقط صريع المرض.. سامحته زوجته أم أولاده وطلبت ان تعيده لبيته لتمرضه بنفسها ورفضت سامية وهو الآن يرقد في شقتها لا حول له ولا قوة!
> > >
مضت خمس سنوات، وكنت قد نسيت حكاية الشاعر الكبير حتي فوجئت بأستاذي يقدم لي نسخة من كتابه الجديد الذي يحمل قصة النهاية لممثلة الاعلانات والشاعر الذي هز قلوب الناس بقصائده الرومانسية، وقبل أن أفتح الكتاب سألت أستاذي إن كان سيهدي نسخة منه للشاعر الكبير، فأجابني أستاذي بسرعة:
حينما تقرأ النهاية في السطور الأخيرة ستعرف الاجابة وحدك!
وبدأت أقرأ ما كتبه أستاذي في نهاية السطور:
«.. واستطاعت خلال وجوده علي سريرها أن تقود بواسطة أصدقائه حملة تبرعات في الصحف مدعية أن الشاعر الكبير لا يملك ثمن الدواء، وانهمرت آلاف الجنيهات والدولارات عليها.. في نفس الوقت كانت الدولة قد قررت علاجه في الخارج علي نفقتها، لكن ليلة سفره للخارج كانت مرعبة!.. كان الشاعر يرقد علي سريره وسمع أصواتا أدرك معها أن رجلا آخر داخل الشقة.. دق الجرس المجاور لسريره لتأتي زوجته لكنها لم تحضر.. جمع كل قواه ليصيح بأعلي صوته مناديا عليها فلم ترد.... وبعد مرور ساعة جاءته سامية تمسك بالسيجارة بيدها.. سألته: «ماذا تريد؟!».. استطاع بصعوبة أن يبصق عليها فإذا بها تبصق عليه وتغادر الحجرة!.. اتصل بي في الثالثة فجرا يخبرني بما حدث وهو يبكي!.. في اليوم التالي استيقظت سامية في الثانية بعد الظهر، وذهبت إلي حجرة الشاعر الكبير.. حاولت أن تعيده إلي سريره لكنها اكتشفت أنه مات!
خرجت الصحف صباح اليوم التالي تحمل نبأ وفاة الشاعر الكبير بالسكتة القلبية، ومع الخبر صورة لسامية وهي بملابس الحداد، وفي المساء بكي المشاهدون وهم يشاهدون في التليفزيون برنامجا عن الشاعر الكبير، وكانت سامية ضيفة البرنامج فراحت تحكي عن رعايتها له، خاصة الليلة الأخيرة!!
سألت أستاذي الكبير بعد أن طويت صفحات الكتاب.
أعرف أن زوجته الأولي كانت مثار احترام المجتمع كله، فكيف خطفته هذه المرأة اللعوب من أحضان زوجته المحترمة؟!
المرأة اللعوب مثل الفيلم الهابط، وبعض الرجال يستمتعون بالأفلام الهابطة كنوع جديد من أنواع التسلية.. أو قل إن هذه المرأة أعطته ما لم تعطه له زوجته المحترمة فوقع في خطية من خطايا الحب!!