جمال فهمي
جمال فهمي


من دفتر الأحوال

ضمائر في القبور

جمال فهمي

الثلاثاء، 25 يناير 2022 - 05:56 م

جرت فى مجتمعنا مؤخرًا وقائع (أو قل جرائم بشعة) فضحت الحجم المروع للتخلف والجلافة والقسوة التى باتت للأسف، تترعرع وتنتشر وتأكل فى أحشاء بلدنا ومجتمعنا الراهن، ومن ثم تتراكم قوافل ضحايا هذه الحال من البشر الأبرياء الذين أغلبيتهم الساحقة من النساء.

فمثلًا، فتاة فى عمر الزهور تفقد حياتها منتحرة، لأن مجرمًا معدوم الأخلاق والضمير ركَّبَ صورتها البهية البريئة على صور إباحية بهدف ابتزازها وتجريسها عن طريق بث هذه الصور فى الفضاء الإليكترونى لكى يستثير عمدًا مخزون العفن الذى نرقد عليه، فقتل الفتاة اجتماعيًا قبل أن تزهق هى روحها الطاهرة بيديها.. وهذه المدرسة الشابة التى أقدم أحدهم على نشر فيديو لها وهى ترقص بين زملائها فى رحلة نيلية فإذا الدنيا تتفجر من حولها فجأة ومن كل اتجاه وبدا الأمر اغتيالًا معنويًا وإنسانيًا بالغ القسوة والعنف، وكأن الأجلاف المتخلفين يستكثرون على هذه الشابة مجرد لحظة بهجة بريئة!!

هذه أحدث الوقائع المخزية التى ليست سوى غيض من فيض رهيب يشى بعمق أزمتنا وسوء أحوالنا، وبينما أنا أتأمل فيها بحسرة وانكسار قلب تذكرت رواية رائعة وشهيرة أبدعها الأديب الفرنسى الكبير جوستاف فلوبير (1821 ـ 1880) ونشرها تحت عنوان «مدام بوفارى»، ولست أعرف على وجه الدقة لماذا قفزت هده الرواية بالذات إلى رأسى، ربما لأن مصير بطلتها الانتحار تمامًا كما المصير المفجع لواحدة من آخر أفواج ضحايا تخلفنا، أو ربما لأن فلوبير اتخذ قراره الحاسم بكتابتها ـ كما قال ـ عندما كان فى زيارة لمصر.. ربما.

أما الملخص المخل لحكاية «مدام بوفارى» التى عكف فلوبير على كتابتها بعد عودته من رحلته المصرية لمدة خمس سنوات كاملة وصارت بعد ذلك موضوعًا لعدد كبير من الإبداعات السينمائية والموسيقية، فهى تدور حول الشخصية الرئيسية فى الرواية واسمها إيما روو التى هى نفسها مدام بوفارى، وتبدأ قصتها فى الرواية وهى صبية جميلة تعيش فى مزرعة والدها حياة عزلة وملل، وتبقى على هذه الحال حتى تلتقى الطبيب شارل بوفارى الذى تقبل عرض الزواج به أملًا فى الخلاص من عزلتها وعيشتها المملة.

وما أن تتزوج إيما وتحمل لقب زوجها حتى يترك لها هذا الأخير مهمة إدارة شئون بيته وحياته كلها، فتعيش حياة تراها مسلية جدًا بل ولاهية فتنظم الحفلات الصاخبة فى بيتها للأصدقاء وتستضيف فرق الموسيقى المختلفة، فضلًا عن إنجابها لطفلة صارت تملأ عليها دنياها، لكن الزمن يمر ويعاودها الشعور القديم نفسه بالملل من جديد.

وفيما هى على هذه الحال تتعرف برجل يدعى رودلف بولانجيه وتعجب به ثم تحبه، وبالتوازى يعانى زوجها الإخفاق فى ممارسة مهنته وتتراكم عليه الديون بسبب تبذيرها الشديد، وبينما هى تضيق وتتململ من حياتها الزوجية وتتأهب للهروب مع عشيقها بولانجية  يهرب العشيق ويتركها نهبًا لضياع تستسلم له حتى يتم تدمير حياتها تماما فتنتحر.

هذا هو باختصار، الملخص المخل جدًا لرواية «مدام بوفارى» التى رغم الشعبية الهائلة والترحيب الشديد التى قوبلت به من الجمهور والنقاد، فإن كاتبها فلوبير لم ينج من حملة شعواء انطلقت ضده ووصلت به إلى أن يحاكم بتهمة  الإساءة للأخلاق، وهى تهمة ـ كما ترى ـ تقطر نفاقًا ورجعية، لكن الزمن جرت فيه هذه الحكاية كان النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وليس القرن الواحد والعشرين!!.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة