العلم والمعرفة والتعليم والبحث العلمي مرتكزات أساسية لأي شعب يريد أن يصنع لنفسه مكانة بين الأمم، وما من حضارة علي وجه الأرض حفرت لنفسها مكانا في تاريخ البشرية إلا كان العلم والبحث العلمي هما المفتاح الذي تلجأ إليه وتلوذ به، لاختراق الأزمات، وتحقيق الطموحات، ومصر عبر تاريخها قائمة علي العلم والتعليم، والأزهر الشريف الذي يمتد تاريخه ألف سنة أو تزيد قائم في حقيقته وجوهره علي العلم وصناعة العلماء في مختلف مجالات المعرفة، والعقول العبقرية التي خرجت من مصر في مختلف العلوم والمعارف لا تنحصر، وقد وقف مؤرخ العلم والحضارة ابن خلدون قبل سبعمائة سنة تقريبا فرصد أحوال العلوم والمعارف في مختلف بقاع العالم الإسلامي، فأطلق شهادته المدوية الجليلة التي قال فيها: (ونحن لهذا العهد نري أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر، لما أنَّ عمرانَها مستبحرٌ، وحضارتها مستحكمةٌ منذ آلاف السنين، فاستحكمتْ فيها الصنائع وتفننت، ومن جملتها تعليمُ العلم)، وهكذا عاشت القاهرة وصنعت صيتها وسمعتها وثقلها ودورها في محيطها العربي والإسلامي علي أساس متين من تميزها في خدمة العلم، ولا أمل لها في الخروج من أزماتها ووضع القدم علي الطريق الصحيح إلا بالعناية الفائقة بالعلم والتعليم، وكل عاقل يدرك ذلك، وعلي رأس هؤلاء العقلاء والحكماء العبقري الدكتور أحمد زويل، وقد نشر قبل أيام مقالا مهما له في صحيفة (هافينجتون بوست الأمريكية)، عنوانه: (دائرة القدر، من مكتبة الإسكندرية إلي مدينة مصر الجديدة للعلوم والتكنولوجيا)، أطلق فيه شعارا مهما، حينما قال: (إن الربيع العلمي قادم نحو منطقة الشرق الأوسط وسينطلق من مصر لا محالة)، وهذا الشعار أو الأمل صادق تماما، يشهد بذلك ما ادخره الله تعالي لمصر وأكرمها به من التاريخ والطموح والإمكانات والهمة والعقول والمواهب والأمل، مع ضغط الواقع الذي تنصهر به الهمم الصادقة فتفرز عقولا عبقرية وأفكارا متألقة، ومع التماس المخارج والحلول، مما يدفعنا لاستنفار قدراتنا وطاقاتنا، ومسيرة الدكتور أحمد زويل شاهد أيضا علي ذلك، حيث سلك طريقه بصعوبة وتعثر، وعاني كل ضغوط الواقع المحبطة، من الإمكانات المنعدمة، والأوساط العلمية المكتئبة والكفيلة بإطفاء أي جذوة عبقرية أو تألق، لكنه استطاع اختراق ذلك كله، لأن من وراء العبقرية والتألق الذهني عنده همة قادرة علي الاختراق، ومن الأمور التي قال الدكتور زويل في مقاله: (إن العلم واكتساب المعرفة هو النسيج الذي قام عليه الإسلام، وكان الأساس الذي حقق به المسلمون نجاحاتهم منذ قرون، ولكن لإعادة الأمجاد الآن يجب علينا السعي وراء المعرفة كهدف رئيسي في الدول العربية)، وكلام الدكتور زويل هنا صادق تماما، ويكشف عن اعتزاز كبير بجذوره، ووعي عميق بحقيقة هذا الدين وجوهره، وأنه قائم في أساس علي العلم والمعرفة والتمدن والحضارة والعمران والمؤسسات والإبداع والابتكار، ورخاء الدنيا والآخرة، بخلاف الصورة المرعبة التي تقدمها تيارات التطرف والقتل لهذا الدين من الإخوان إلي داعش، مرورا بكل فكر ديني مريض انحرف بهذا الدين فحوله إلي خراب ودماء وتفجير، وجعلوه في نظر العالمين مصدر رعب وخراب وتخلف وشقاء، في حين أن الله تعالي أنزله رحمة وراحة، وقد كنت مرة مع الدكتور أحمد زويل فكان يحدثنا عن كلمته في احتفال استلامه لجائزة نوبل، وأنه قال في كلمته: (أنا اليوم أستلم جائزة نوبل، ولو رجع بنا التاريخ عدة قرون لكان هناك عشرات ومئات من أجدادي يستحقون نوبل)، وقد ألف الأستاذ سليمان فياض كتابًا جيدًا اسمه: (عمالقة العلوم التطبيقية، وإنجازاتهم العلمية في الحضارة الإسلامية)، تتبع فيه العباقرة والنبغاء من علماء الإسلام، الذين نبغوا في العلوم التطبيقية، ممن أسهموا في الجبر والمقابلة، وطب العيون، والطب النفسي، والوزن النوعي، وعلوم الحيوان والنبات، وعلوم الحساب والمعادلات المثلثية، والجاذبية الأرضية، وعلوم الأجنة والعقاقير، وعلوم النجوم والبيئة، وعلوم الهندسة التحليلية، وجراحة العيون، وعلوم الأورام، وموسوعات الصيدلة، وعلوم الصوتيات، وعلوم الأوبئة، وعلوم الكسور الاعتيادية واللوغاريتمات وغير ذلك، وكتب في ذلك أيضًا الأستاذ: قدري حافظ طوقان كتابه القيم: (تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك)، وكتب عبد الحليم منتصر كتابه: (تاريخ العلم، ودور العلماء العرب في تقدمه)، وكتب عبد الله الجراري كتابه: (تقدم العرب في العلوم والصناعات)، والكتابات في هذا المعني كثيرة، وأجود ما كتب في هذا الباب -فيما اطلعت عليه- كتاب: (أعلام الحضارة العربية الإسلامية في العلوم الأساسية والتطبيقية)، تأليف الأستاذ زهير حمدان، وهو مطبوع في ستة أجزاء، ترجم فيه لألفين وأربعمائة من أعلام تلك الفنون، مع ذكر أسماء تصانيفهم، وأماكن وجود مخطوطاتها في المتاحف ودور المخطوطات في العالم، وهذا التراث العلمي العريق لنا كمسلمين يقف جنبا إلي جنب مع تراث المسلمين في الفقه والتفسير والحديث النبوي وأصول الفقه وعلوم المنطق والكلام، بل امتزجت هذه العلوم حتي نري الواحد من عباقرة الطب كابن النفيس له مؤلفات أيضا في الحديث النبوي الشريف وعلومه، وخلاصة ذلك كله أنه لا مخرج لنا من أزماتنا، ولا علاج لها، ولا صناعة للوطن، ولا تحقيق للأمل، ولا تجديد للدين، بل ولا فهم له إطلاقا إلا بالعلم والبحث العلمي الحر النزيه، المخدوم بعشرات المؤسسات القادرة علي صناعة العقول وإعداد الأجيال، ويوم أن نمنح التعليم أولوية قصوي، ونضخ فيه جهودنا جميعا، ونشقي ونتعب جميعا لإنجاحه، ابتداء من معرفة قيمة العلم، ومرورا بالتفاني في التعليم ولو في الشوارع والبيوت وعلي قارعة الطرقات، ومرورا بالإخلاص في منح المعرفة في كل قاعات العلم والدراسة والمعرفة، حتي تذوب وتتلاشي الدروس الخصوصية، ويصان العلم عن أن يكون وسيلة مبتذلة للتربح وجمع المال، فحينئذ ننجح جميعا وينجح الوطن، وسلام علي الصادقين.