د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


لا بد من لمَّا

الأخبار

الخميس، 27 يناير 2022 - 05:57 م

بقلم: د. مبروك عطية

العقيدة إذا فسدت فإن الأعمال كلها تفسد لفسادها، والأعمال هى رصيد العبد يوم القيامة، فهو يحرص على توفرها ومضاعفتها، وقد قال تعالى: «ولا تبطلوا أعمالكم»

 

السبت: تأتى لمَّا فى اللغة العربية ظرفا بمعنى حين، تقول: لما جاءنى أكرمته، أى حين جاءنى أكرمته، وباستثمار هذا المعنى فى فهمنا لكتاب الله عز وجل نجد أن لما التى جوابها خير تأتى فى آيات بينات؛ لتكشف لنا من الأسرار ما نحن فى حاجة إليه، ومن ذلك أن إبراهيم عليه السلام فى لحظة توديعه أباه الذى نهاه عن نصحه بتركه عبادة الأصنام، وصرفه إلى عبادة الله الخالق السميع البصير، وإلا رجمه قال له: «سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربى عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا» وعد أباه بالاستغفار له حتى تبين له أنه عدو لله، ثم وعده باعتزال عبادته، وعبادة قومه لغير الله، ووجدنا ربنا تعالى يقول: «فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا.

ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا» أى حين اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهب الله له إسحق ويعقوب وجعلهما نبيين، ورزقه وإياهم من خيرات الدنيا ما جعلهم من الشاكرين، أى حين اعتزل الخليل الكفر وأهله فتح الله عليه وله الفتح العظيم، ونحن لا نطمع إن اعتزلنا الباطل وأهله أن يرزقنا الله أنبياء؛ فلا نبى بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما نطمع أن يرزقنا الله أطباء مهرة، ومهندسين فائقين، ورجالا ونساء صالحين، يخضرون الرمال، ويغير الله بهم الأحوال، فلا نرى منهم إلا كل جمال، ونطمع كذلك فى رحمة الله الواسعة التى نتفيأ ظلالها رزقا واسعا، وعافية عظيمة، وسترا فى الدارين، فلا تسوء أحوالنا، ولا يذل رجالنا، ولا تنتهك حرماتنا، فإن سأل سائل: ومتى يحقق الله لنا هذا الخير الكثير فالجواب (لمَّا) نعتزل الباطل والرشوة، والفساد، بخلاف الذين نراهم متشوقين إلى هذا الخير الكثير ولكن بعد أن يرزقهم الله إياه أولا، ثم يهجرون من بعده الباطل، كما نجد فى الأعمال الدرامية من قول تاجر المخدرات، هذه آخر عملية، وبعدها أتوب، أى بعد أن أحصد ربحها، وأغنى به هنالك أحرم الحرام بحق، فلا أقترب منه حيث يصير عندى ما يكفينى، ولا أحتاج إلى أحد، أى أنه يريد أن يستعين بالحرام على ممارسة الحلال، والحق أنه مطالب منه أن يبتعد عن الحرام أولا؛ ليفتح الله عليه ويرزقه الخير الذى لا يتصوره؛ فليس على فضل الله من حرج، والله واسع عليم.

الأحد : فلما أن جاء البشير
وفى قصة يوسف عليه السلام نجد أن البشير حين جاء يعقوب بقميص يوسف، ألقاه على وجهه فارتد بصيرا، قال الله تعالى: «فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إنى أعلم من الله مالا تعلمون» كان يعقوب عليه السلام قد ابيضت عيناه من الحزن على فقد ولده، وكان قميص يوسف موجودا بلا شك، لكنه لم يكن قريبا منه، فلما قرب من وجهه، وألقى عليه أبصر، وقد شم يعقوب ريح يوسف عليهما السلام، وذلك لما فصلت العير أيضا لا قبل أن تفصل، أى لا قبل خروج العير بالقميص، تدرج الأمر من شم الريح إلى حقيقة الإبصار، فشم الريح كان عن بعد، والإبصار كان عن قرب، فجواب التحرك شم، وجواب الإلقاء على الوجه إبصار، ونحن نريد كما فى المسألة الأولى أن يكون إبصار بدون سبب الإلقاء أو بدون علاج، فلسنا كما قلت نطمع فى الإبصار بوضع قميص إنسان على وجه من يعانى فقد الإبصار حتى يبصر، وإنما نحن فى حاجة إلى طبيب حاذق، يجرى عملية أو يصف دواء ناجعا فإذا به يبصر بحول الله وقوته، ولكن قبل ذلك فلا، وليس يجدى ما يسمى بالعلاج بالقرآن؛ فالقرآن الكريم شفاء لما فى الصدور من سواد، وشك وريبة بإقامته الحجة القاطعة المزيلة لكل شك وريبة، وهو منهج ربانى للتشريع الذى تفضى نتائج الأخذ به إلى سعادة الدارين، من صحة اعتقاد، وصلاح أعمال، وحسن خلق، وليس تعويذة كما يحاول الجهال الإنقاص من قيمته بهذا العبث، الذى يلاعبون به السذج من الناس، وكأنهم يريدون الصراط المستقيم عوجا، ويسهمون فى تخلف الأمة، وتدهور اقتصادها، وتخلف أفرادها، والانحراف بالخطاب الدينى عن مساره الصحيح الذى يبنى الإنسان على الأخذ بالأسباب، وتعليق النتائج على المقدمات، والتعلق بحبال العلم الواثقة، التى كلما تعلقنا بها ازددنا خشية لله عز وجل: «إنما يخشى الله من عباده العلماء» وما فزع النبى صلى الله عليه وسلم من شيء قدر فزعه من الأمور التى تخل بعقيدة الناس، فقد جمع الناس حين قالوا إن الشمس قد كسفت لموت ولده إبراهيم، وقال لهم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لمولده، وكانت الشمس قد كسفت يوم مات ولده إبراهيم، فربط الناس بين كسوفها وبين موته، فزعموها كسفت إكبارا لموت ابن النبى، فنهاهم عن ذلك وهو يعانى ألم الوداع، وحزن الفراق، ما منعاه أن يؤجل نصحهم، ويسد خللا يراه مدمرا لكل شيء؛ لأن العقيدة إذا فسدت فإن الأعمال كلها تفسد لفسادها، والأعمال هى رصيد العبد يوم القيامة، فهو يحرص على توفرها ومضاعفتها، وقد قال تعالى: «ولا تبطلوا أعمالكم».

الإثنين : خلصوا نجيا بعد لما
وفى الآية (80) من سورة يوسف يقول ربنا تعالى: «فلمَّا استيأسوا منه خلصوا نجيا» أى أن إخوة يوسف حاوروه، ورجوه أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم الذى وجدوا متاعهم عنده؛ لأن له أبا شيخا كبيرا هو فى حاجة إلى رجوعه، والشيخ الكبير لا يحتمل الصدمة، بخلاف الصغير الذى لديه، طاقة على أن يتحمل، وإن كانت الصدمة مشتركة، لكن هيهات أن يتساوى فيها كل الناس صغيرهم وكبيرهم، والقرآن الكريم لم يزد على: «قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين» وكان جوابه: «معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده»، وظاهر ذلك أنهم قالوا ما قالوا مرة واحدة، وأنه عليه السلام أجابهم بجواب واحد هو هذا الذى نتلوه، لكن قوله تعالى: «فلما استيأسوا منه» دليل على أنهم قالوا له ذلك مرارا، وأن جوابه كذلك كان هو جوابه فى كل مرة، فلم يتغير، ولم يصدر منه ما ينبيء عن هذا التغيير المحتمل، ومن ثم حدث لهم يأس منه، فلا فائدة من رجائه، لأنه مصر على العدل الذى اختاروه هم أنفسهم حين سألهم: فما جزاؤه؟ فأجابوه: من وجد فى رحله فهو جزاؤه، كانوا على يقين أنه لن يوجد فى رحل أحدهم، فما جاءوا ليفسدوا فى الأرض، وما كانوا سارقين، ولم يعلموا بلطف الله عز وجل ليدخل ليوسف أخاه، والله لطيف لما يشاء، أى يجعل لما يشاء سببا، والآن جاء وقت تنفيذ العدل، فكيف يحيد عنه! والدرس العظيم الذى نتعلمه من هذه الآية أنه لا حوار، ولا بحث عن جديد إلا بعد اليأس مما نحن فيه، أى لهذا البحث لمَّا، فلا بد من لمَّا، والمراقب لسلوك مجتمعه يجد أننا أعطينا لمَّا هذه إجازة مفتوحة، فنحن لأول مرة، ولأدنى ملابسة نطلق، دون مراعاة للمَّا، أى دون محاولة إصلاح، ولا نعطى المخطئ فرصة للاعتذار، بل نهجره حاكمين عليه بما يملى علينا الهوى، من فسق وفجور وكفر أحيانا، بل إن فينا من يطلق الحكم كالرصاصة يطلقها طفل أو سفيه دون بينة، وكثير منا لا يصبر على مهنة امتهنها، قبل أن يرى ما تسفر عنه الأيام فيها، والأيام أغيار، والعيش على وجه الجملة حلو ومر، لكنا نريده حلوا بلا مرارة، وربحا بلا خسارة، وصفاء بلا كدر، وحين يخاطب بعضنا بعضا يكون الفجور فى الخطاب الذى هو مقدمة للفجور فى الخصومة من أول جملة لا تروق لأحد المتخاطبين، أى دون انتظار للما التى ينبغى أن تأخذ حظها، ووقتها، فلكل شيء أجل فلماذا نقتل المعانى، بعدم إعطائها أجلها المضروب لها، أى أننا ينبغى أن نعطى لأنفسنا فرصة تتمثل فى لما الظرفية التى هى بمعنى حين.

الثلاثاء : الخلاصة على لسان الفلاحة
عرفتها أيام الطلب فى الأزهر الشريف فلاحة ورثت ثقافتها عن أمها وجدتها، وواقع الحياة التى عاشتها وخبرتها، وقد ورد على لسانها مفهوم لما، ومقتضاها دون ذكر لما على لسانها فى كثير من الأحيان، فقد رأيتها وسمعتها وهى تقول ضاحكة لطفلها الذى يريد أن يأكل مما صنعت والحلة لم تزل فوق الكانون: اصبر شوية لما يطيب، أى اصبر قليلا حتى ينضج ما فى الإناء لتتذوق طعمه؛ فلا يبدو فى فمك غريبا طعمه وهو لما يستو أى لم يستو، وكذلك سيتعب فمك مضغه، ويتعب معدتك مده إليها وهو دون الاستواء، ويعلم الله أن استواء المعانى أشد طلبا لعقولنا وقلوبنا من استواء الطعام، ألا ترى إلى الحكمة القديمة التى تقول: من تصدر قبل أوانه لقى ذل هوانه، أى من أخذ موضع الصدارة فى العلم فجلس مجلس أبى حنيفة فى الإفتاء، وهو لما يزل صغيرا غير كفء لتلك الصدارة لقى ذل الهوان من تحقير العلماء له، وضلال العوام بفاسد ما يقول؛ فيخسر بذلك الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، كان على هذا الحدث الصبى أن يصبر حتى يصبح كفؤا للصدارة، درس ابن عساكر أكثر من عشرين سنة، واستأذن شيوخه كى يجلس مجلس المعلم؛ فقالوا له: حرام عليك ألا تجلس، واليوم صرنا نرى من هو فى سن العشرين يريد أن ينصب نفسه شيخا، يعلم الناس، ويفتى لكلمتين حفظهما، وبيتى شعر لا يحسن إقامتهما، ولا يضبط وزنهما، وقولين من المأثور وبين هذين وهذين (همبكة كلامية) كلها من نحو يا أيها الإخوة ويا أيتها الأخوات، ويا أيها الأحبة فى الله، وصلوا على سيدنا الرسول، ومسح الوجه إثر دعاء، مع حلاوة المظهر ومر المخبر، وما هذا بعلم، والناس فى ظل الضعف العلمى، وغيبة العلماء متعطشون إلى أى شيء، يسرهم هذا الأسلوب، وإذا سألتهم عنه أجابوك بما لا يختلف كثيرا عن عرضه وفحوى ما فيه، فهم يقولون لك: ما شاء الله عليه، وربنا يبارك فيه ويزيد من أمثاله، هذا هو الشباب والا بلاش، مش الشباب اللى واقف ع النواصى واللى حالق كابوريا، وبتوع الشات والمخدرات، وما هذا برأى، إنما الرأى أن يقال: حجة، وأن يقال: حافظ، وأن يقال: عالم وعلامة، ومحدث ومفسر، وفقيه، لكن هذه مصطلحات لها معناها، ومقتضاها، فلو سمعتها من غير عالم بمعناها ومقتضاها كان رأيه غير مقبول، ولذلك أقول بقول الله ربنا: «ضعف الطالب والمطلوب»، وحال هؤلاء لا يختلف كثيرا عن حال ابن الفلاحة القديمة التى كانت تنصح له بأن ينتظر حتى ينضج الطعام الذى فى الإناء؛ حتى يسوغ له ابتلاعه وهضمه، ومن ثم الإفادة منه، أى كان عليه أن ينتظر حتى تأخذ (لما) حظها، فإذا أخذت لما حظها فى كل شيء أخذنا نحن حظنا من كل شيء، وما حظنا إن أخذناه على وجهه إلا سعادة فى الدارين، وما فوات حظنا علينا إلا ندما وحسرة فى الدارين أيضا.

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة