كل سنة وأنت طيب.. ليس لأن اليوم هو ثاني أيام رمضان.. ولكن لأن هذا الشهر سيشهد أطول ساعات الصوم في أي سنة أخري.. وإذا أضفنا إلي ذلك أعلي معدلات درجات الحرارة أثناء النهار فان المشقة في الصيام هذا العام تصبح متعة كبري للصائمين بحق.. وعلي قدر المشقة يكون الثواب.
ساعات الصيام خلال شهر رمضان المبارك تختلف من بلد لآخر وفقا لخطوط الطول والعرض.
المسلمون في الدنمارك سيشهدون أطول ساعات صيام في العالم لمدة تصل إلي 21 ساعة، وفقا لأحدث الخرائط لتسجيل ساعات الصيام في جميع أنحاء العالم. والمسلمون في الأرجنتين سيصومون أقل مدة وهي 9 ساعات ونصف. أما في مصر فسيكون الصيام لمدة 15 ساعة و52 دقيقة وفي معظم الدول العربية ستتراوح ساعات الصيام بين 14 و15 ساعة.
ليس هذا فقط ، ولكن نصف الكرة الشمالي الذي نعيش فيه سيشهد موجة حر هي الأعلي منذ 33 عاما خلال هذا الشهر. وهذا يجعلنا بالطبع أمام اختبار حقيقي لتحمل مشقة الصوم للقادرين عليه والاستمتاع بالفرحة عند انطلاق مدفع الإفطار وهي إحدي الفرحتين التي وعدنا بهما الله ورسوله : للصائم فرحتان.. عند فطره ، وعند لقاء ربه.. اللهم أرزقنا الفرحتين.
وحتي لا نتوه بعيدا.. فان الأصل في تسمية شهر رمضان بهذا الاسم هو أنه كان - وقت تسمية الشهور- أكثرها ارتفاعا للحرارة وجاءت التسمية من الرمضاء أو الرمال شديدة السخونة.. وهناك المثل العربي القديم الذي يعبر وجود خيارين كلاهما أصعب من الآخر: كالمستجير من النار بالرمضاء.
لم يكن «رمضان» يعرف بهذا الاسم في الجاهلية الأولي، مثله كسائر الشهور القمرية الأخري، ففي اللغة القديمة، لغة العرب العاربة، عاد وثمود وغيرهما، كان يسمي «تاتل»، ومعناها شخص يغترف الماء من بئر أو عين، وهذا يدل - كما يقول محمود الفلكي - علي أن هذا الشهر كان من شهور الشتاء كما يدل عليه اسم آخر له، هو «زاهر»، وقيل في هذه التسمية: إن هلاله كان يوافق مجيئه وقت ازدهار النبات عند العرب في البادية في الجاهلية الأولي، ولا يكون الزرع مزدهراً إلا إذا وجد المطر. ثم تغيرت أسماء الشهور القمرية عند العرب المستعربة، قبل الإسلام بنحو مائتي عام، وكانت القاعدة التي وضعوا علي أساسها أسماء الشهور مستمدة من واقع الظروف الاجتماعية والمناخية، تبعًا للأزمنة التي وقعت فيها هذه الشهور، حسبما اقترح «كلاب بن مرة» من سادة قريش، الذي قيل إنه صاحب تسميات الشهور القمرية بأسمائها الحالية، ومنها «رمضان»، الذي كان مجيئه وقت أن كان بدء الحر وشدته وهو ما يسمي «الرمضاء»، فسمي «رمضان»..
كما كتب علي الذين من قبلكم
نحن نعرف كما أخبرنا الله تعالي أن الصيام كان موجودا قبل الإسلام.. وكان مكتوبا أو مفروضا علي الأمم السابقة.. وهو ما أكده القرآن الكريم « يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم «.. كما أن الصيام هو فريضة مقدسة في كل الأديان السماوية ، بل في بعض الديانات الأخري غير السماوية. فنجد صوم عاشوراء عند اليهود كان شكراً لله علي نجاة موسي من الغرق، واليهود المعاصرون يصومون ستة أيام في السنة، وأتقياؤهم يصومون شهراً، وهم يفطرون كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة عند ظهور النجوم، ويصومون اليوم التاسع من شهر «أغسطس» كل سنة في ذكري ما يسمونه خراب هيكل أورشليم.
أما المسيحيون.. فهم يصومون كل سنة أربعين يوماً، وقيل إن الأصل في صيامهم الامتناع عن الأكل بتاتاً، والإفطار كل أربع وعشرين ساعة، ثم قصروه علي الامتناع عن أكل كل ذي روح وما ينتج منه، وعندهم صوم الفصول الأربعة، وهو صيام ثلاثة أيام من كل منها، وصيام الأربعاء والجمعة تطوعاً لا فرضاً.
حتي الذين لا يدينون بدين سماوي كان عندهم صيام كالبراهمة والبوذيين في الهند والتبت، ومن طقوسهم في نوع منه الامتناع عن تناول أي شيء حتي ابتلاع الريق لمدة أربع وعشرين ساعة، وقد يمتد ثلاثة أيام لا يتناولون كل يوم إلا قدحاً من الشاي، وكان قساوسة جزيرة كريت في اليونان القديمة لا يأكلون طول حياتهم لحماً ولا سمكاً ولا طعاماً مطبوخاً.
شياطين رمضان الجديدة
في شهر رمضان تصفد الشياطين.. أي تقيد بالأغلال. وبالرغم من أن الله قادر علي تقييد الشياطين طول السنة إلا أنه سبحانه وتعالي يتركها ليختبرنا ويمتحننا ليري من منا أكثر قدرة علي مواجهة شهواته ونزواته. لكن الله يقيد الشياطين في رمضان ليسهل علينا المهمة وييسر علينا الطريق إلي التوبة ويفتحه بإشارة خضراء إلي الجنة بإذنه ورحمته ومغفرته.
فما بالنا لا نرضي بتلك النعمة التي منحنا الله إياها.. ونذهب نحن إلي الشياطين ونفك قيدها ونطلقها تصول وتجول في بيوتنا.. وتعبث بعقول أبنائنا.. وتهدر أوقاتا كان يمكن استغلالها فيما يفيد دنيا وآخرة.. وتقربنا من عذابها وتبعدنا عن رضوانها.
شياطين رمضان الجديدة.. هي شياطين ديجيتال.. تنتقل إلي بيوتنا عن طريق أطباق الأقمار الأصطناعية.. التي تحمل اشارات خبيثة مليئة بالفيروسات المدمرة التي نطلق عليها مسلسلات رمضان.
وحتي لا نعمم الوصف علي كل المسلسلات.. نقول إن غالبيتها تندرج تحت وصف القنابل المدمرة للمجتمع.. في العام الماضي كان الموضوع الغالب علي معظم المسلسلات هو المجون ومن فيها ومن خرج منها أو يدخل إليها.. وهناك محاور أخري أعتقد أنها استمرت إلي رمضان الحالي وهي العنف والخطف والدمار والانتقام والتهريب والدجل والشعوذة والدعارة والشذوذ والسوقية والأباحية وغيرها. هل وجدت فيما قلت محورا واحدا نقدره أو نحترمه أو نأمن علي أبنائنا وأحفادنا منه ؟.. بالطبع لا.
سوف تسألني إذن.. من يقف وراء كل هذا التخريب لعقولنا وأخلاقنا والتجريف لتراثنا وثقافتنا. بالطبع فان هناك مؤسسات دولية تدبر هذا لتدمر شعبا من أعرق الشعوب.. والفضائيات بسذاجتها وعباطتها ولهثها المجنون وراء أي قرش وأي إعلان يجيب فلوس ، تفتح ساعات إرسالها لتلك الأعمال التي تخدر الناس وتلهيهم بحجة أنها تسليهم.
لا يا سادة.. هذه السموم التي تنتج لنا في صورة مسلسلات أبشع وأخطر من أي سموم أخري.. المخدرات تدمر وتخرب لبعض الوقت وأيضا فان لها علاجا.. بعض مسلسلات هذه الأيام ليس لها علاج.. إنها تخرب العقول وتفسد الأذواق وتخرج جيلا لا رجاء منه ولا فائدة.
مرة أخري.. أنا لا أعمم.. ولكن الخبيث يقضي علي الطيب.. وعلينا أن ننبه إلي خطورة ما يحدث من صناع تلك المسلسلات سواء من أنتجوها أو كتبوها أو أخرجوها أو مثلوها.. أو أغمضوا عيونهم عنها من المسئولين بالدولة التي يجب عليها أن تحمي المجتمع وقيمه وتقاليده وثقافته.
طالما الدولة نايمة احنا نصحو.. وإذا كان رمضان كريما علينا.. لابد أن نكون نحن أكثر كرما علي أنفسنا.