محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الاخبار

القرش الأبيض

محمد السيد عيد

الأحد، 30 يناير 2022 - 07:19 م

إن جملة مصاريف سعد زغلول هو وخدمه: طباخ، وسفرجى، وبواب، وعربجى، وسائس، وصبى لخدمة الحريم، ومصروف يد لأولاد أخته: رتيبة وسعيد، حوالى سبعة وخمسين جنيهاً، يكتبها جميعاً بالقروش.

كان ياما كان، فى سالف الأيام، عملة مصرية ذات شأن، تسمى القرش. وكان هذا القرش يضرب به المثل فى قيمته الشرائية، فيقول المصريون: «القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود»، لكن القرش تراجع شيئاً فشيئاً حتى اختفى، وصارت الأجيال الجديدة لا تعرفه، لأنها لم تره ولم تتعامل به. لهذا رأينا أن نكتب عن القرش لعل الأجيال الجديدة تعرف شيئاً من تاريخها المالى، ولعل الجميع يرون فى الموضوع طرافة.


لم تعرف مصر القرش إلا فى العصر العثمانى، الذى بدأ فى مصر فى القرن السادس عشر، وبالتحديد فى عام 1517. أما قبل ذلك فكان المصريون يستخدمون ثلاث عملات مختلفة:
- عملة ذهبية    (الدينار)
- عملة فضية   ( الدرهم)
- عملة نحاسية (الفلوس)
وكانوا يتعاملون مع العملة النحاسية (الفلوس) بالوزن غالباً وليس بالعد. لكن لكل زمن عملته. دخل القرش مصر، وصار عملة معتمدة، وظل معمولاً به مئات السنين، ولم يختفِ من الوجود إلا منذ سنوات قليلة لا تزيد على العشرين.
وكان المصريون فى عصر محمد على وما بعده لا يتعاملون بالجنيه إلا فى المعاملات الدولية أو خلال تعاملهم مع البنوك، أما ما عدا ذلك فقد كان القرش هو المسيطر. وكان القرش عملة لا يستهان بها، لذلك قسموه إلى أجزاء، فهناك نصف القرش، (التعريفة)، وربع القرش (النكلة)، وهناك المليم، وهو واحد من عشرة أجزاء من القرش، وهناك نصف المليم (برونزة).


مرتبات المصريين كلها بالقروش
وكى نعرف قيمة القرش تعال نتعرف على قيمة المرتبات فى الدولة فى عصر محمد سعيد باشا، ابن محمد على، كما رصدها المؤرخ الكبير أمين سامى فى كتابه «تقويم النيل». مع العلم أن الوظائف المدنية كانت تقاس بما يعادلها من الوظائف العسكرية.
مرتب اللواء 8000 قرش، مرتب الأميرلاى (العميد) 5000 قرش، مرتب القائم مقام (عقيد) 3000 قرش، مرتب البكباشى (مقدم) 2500 قرش، مرتب الصاغ (الرائد) 1500 قرش، مرتب اليوزباشى (النقيب) 750 قرشاً، مرتب الملازم أول وثان 500 قرش.
أما بقية الوظائف فكانت قيمتها أقل، وأعلاها مرتب الكاتب الذى يتقاضى 500 قرش مثل الملازم، ثم تتدرج المرتبات فى الانخفاض حتى نصل لمرتب البواب وهو أدنى المرتبات، فنجده يتقاضى ستين قرشاً فى الشهر.
مصروفات أسرة متوسطة
هكذا كانت الرواتب كلها بالقرش، وأمامها كانت المصروفات أيضاً بالقرش. وقد وضع المستشرق الإنجليزى الذى زار مصر فى هذه الفترة ميزانية لأسرة متوسطة لمدة عام فقدرها بألفين وسبعمائة وخمسة وستين قرشاً. أى أن الميزانية الشهرية حوالى مائتين وثلاثة وعشرين قرشاً ونصف القرش تقريباً. فهل عرفنا قيمة القرش المصرى؟
وحين أرسل محمد على باشا بعثة الأنجال سنة 1844 إلى فرنسا، لتلقى العلوم الحديثة، كان مرتب الطالب فى البعثة مائتين وخمسين قرشاً شهرياً، ولأن هذا المرتب كان كبيراً جداً فقد كان على مبارك –أحد طلاب البعثة- يرسل نصفه لأسرته، لأن والده كان متزوجاً بأربع نساء، ولديه جيش من الأطفال.


سعد زغلول شاهد
• مضت السنوات، ورغم ذلك لم يفقد القرش عرشه، فها هو سعد زغلول يكتب فى مذكراته سعر الأرض التى اشتراها عام 1903 بالقروش، فيقول:
• «اشتريت مائة فدان وثمانية وستين فداناً، و4 قراريط وسهمين... كائنة بناحية قرطسا بمديرية البحيرة باعتبار ثمن الفدان الواحد بمبلغ خمسة آلاف وثلاثمائة وخمسة وعشرين قرشاً» (أى أن ثمن الفدان لايزيد على 25,53جنيه)
ويكتب سعد زغلول مصاريف بيته الشهرية فى مذكراته، فكم تراه يصرف شهرياً، وهو يحمل لقب بك، ويسكن فى قصر، وزوجته بنت رئيس الوزراء؟
إن جملة مصاريف سعد زغلول هو وخدمه: طباخ، وسفرجى، وبواب، وعربجى، وسائس، وصبى لخدمة الحريم، ومصروف يد لأولاد أخته: رتيبة وسعيد، حوالى سبعة وخمسين جنيهاً، يكتبها جميعاً بالقروش.
مرتب الشيخ محمد عبده
ولكى نعرف مستوى الرواتب فى هذه الفترة تعال نقرأ معاً تدرج مرتب الشيخ محمد عبده، الذى بدأ حياته العملية فى عهد الخديو إسماعيل مدرساً فى دار العلوم ومدرسة الألسن، وكان حاصلاً على العالِمية ( تساوى درجة الدكتوراه الآن) براتب قدره خمسمائة قرش (خمسة جنيهات)، ثم انتقل للعمل محرراً ثالثاً فى جريدة الوقائع بمرتب قدره ألف وثلاثمائة قرش (ثلاثة عشر جنيهاً)، ثم رقى رئيساً لقلم بإدارة المطبوعات بمرتب ألفى قرش (عشرين جنيهاً)، زاد إلى ثلاثة آلاف قرش (ثلاثين جنيهاً) . وبعد عودته من المنفى عُين فى القضاء بمرتب قدره ألفان ومائتا قرش (اثنان وعشرون جنيهاً)، وحين عُين عام 1899 مفتياً للديار المصرية وصل راتبه إلى سبعين جنيهاً، ولا يظهر لفظ الجنيه فى ملف خدمة الشيخ محمد عبده إلا فيما يتعلق براتب وظيفة المفتى فقط، أما كل ما قبل ذلك فالحديث عنه بالقروش.
شاهد عيان
من حسن حظى أنى أدركت جزءًا لا بأس به من هذا الزمان الذى كان القرش فيه له قيمة، ففى الخمسينيات من القرن الماضى كان ثمن الصحيفة اليومية قرشاً واحداً، وثمن رغيف الخبز البلدى: نصف قرش (خمسة مليمات)، وثمن هذا الرغيف محشواً بالطعمية أو الفول: قرشا واحد. وكان ثمن قطعة الشيكولاته قرشاً واحداً، وثمن كوب الشاى أو فنجان القهوة على المقهى قرشاً واحداً. والأرز بأربعة قروش الأقة (الأقة تساوى 1200 جرام) . أما اللحم فكان الجزارون ينادون عليه بالميكروفونات بأربعين قرشاً لأقة اللحم البلدى، وستة وثلاثين قرشاً للمستورد.
وكانت يومية العمال حتى أوائل الستينيات بين العشرة قروش والخمسة عشر قرشاً، وقد رفعت ثورة يوليو 1952 الحد الأدنى للأجور اليومية إلى خمسة وعشرين قرشاً فكان هذا من إنجازاتها الكبرى. وكلنا نذكر أن سعر الدولار الأمريكى فى الخمسينيات والستينيات لم يزد على خمسة وثلاثين قرشاً مصرياً، مما يؤكد أن القرش المصرى كانت له قيمته. وفى خطبة عبد الناصر الشهيرة التى أعلن فيها تأميم القناة قال إن أصول الشركة تساوى خمسة وثلاثين مليون جنيه مصرى، أى مائة مليون دولار.
 وكان طبق الكشرى فى بداية السبعينيات بقرشين، وساندويتش الفول أو الطعمية (رغيف بلدى كامل) بثلاثة قروش. أما تسعيرة المواصلات فكانت قرشاً واحداً للدرجة الثانية، وقرشين للدرجة الأولى فى الأوتوبيس. أما فى التروللى،  حيث كانت  الخطوط «طوالى» تقطع مسافات طويلة، فقد كانت أجرة الركوب  بين قرشين إلى قرشين ونصف.
ولعلك تسأل: ما الذى حدث لتقفز تكاليف الحياة بهذا الشكل الجنونى الذى حتم إلغاء القرش، ثم صارت العملات من فئة الخمسة قروش والعشرة قروش والخمسة وعشرين قرشاً لا قيمة لها، وأخيراً لحقت هى الأخرى بالقرش؟
الإجابة يسيرة، والأسباب لا تخفى على أحد، أولها: الزيادة السكانية، فقد كان تعداد سكان مصر فى عهد محمد على حوالى مليونين ونصف المليون، أما الآن فالعدد مائة مليون أو يزيد.
وثانيها: ثبات الأرض المزروعة لفترة طويلة، أو تناقصها، قبل مجىء السيسى، بسبب البناء عليها و تحويل أخصب الأراضى إلى مصانع ومساكن وجامعات.
وثالثها: عدم التخطيط للمستقبل، مع أن جمال عبد الناصر كان من أوائل الرؤساء الذين أخذوا بالتخطيط، حيث استدعى الخبير الفرنسى شارل بتلهايم ليخطط لمصر فى الخمسينيات، فعلم جيلاً من المخططين، على رأسهم الدكتور اسماعيل صبرى عبدالله رحمة الله عليه، لكن بعد عبد الناصر تغيرت الأحوال، وسبق الواقع التخطيط، فكانت النتيجة ظهور العشوائية، لا فى الأحياء والأبنية فقط بل فى التفكير أيضاً، ومن أمثلة العشوائية الواضحة: بناء كوبرى الأزهر، ثم استبداله بنفق الأزهر، والتفكير فى التخلص من الكوبرى، وهذا معناه أننا أنفقنا ثلاث مرات على شىء واحد ( البناء الأصل/ البديل/ التخلص من البناء الأصل)، ثم قرروا ترك الكوبرى توفيراً للنفقات. ومن أمثلته أيضاً بناء جراج بجوار محطة السكة الحديد برمسيس بعشرات الملايين فى بداية الألفية الثانية، ثم هدمه، وإنفاق عدة ملايين أخرى على هذا الهدم. وضياع ثمن البناء والهدم دون فائدة، رغم احتياجنا الفعلى لجراجات فى هذه المنطقة.
ورابعها: الحروب، فقد خاضت مصر خلال خمسة وعشرين عاماً ( 1948 -1973 ) أربعة حروب خسرت فيها خسائر جسيمة.
خامساً: الفساد، وهو آفة أخلاقية، لكن عواقبه الاقتصادية وخيمة، تتمثل فى السرقة، والرشوة، وتجارة العملة أحياناً، وتوظيف الأموال أحياناً، وتهريب الأموال للخارج، ومن حسن الحظ أننا رأينا فى السنوات الأخيرة صحوة فى مقاومة الفساد نرجو أن تستمر.
المهم أن القرش المصرى، الأبيض، الذى كان ينفع فى اليوم الأسود، اختفى من الوجود.

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة