عبدالرحيم كمال
عبدالرحيم كمال


يوميات الاخبار

مصر الحال والأحوال

الأخبار

السبت، 05 فبراير 2022 - 07:54 م

يكتبها اليوم : عبدالرحيم كمال

هذا التصور هو تصور سطحى ساذج وقديم وجاهز ولا يعكس اى قدر من الهوية بقدر ما يعكس كسلا وبلادة لا نهاية لهم

الهوية ليست (جلابية).. فى رحلة الوعى الشاقة علينا ان نتكلم عن العنصر الأهم فى تلك الرحلة، والكلام عن الهوية كلام مهم وخطير وبه كثير من المغالطات احيانا وسوء الفهم احيانا أخرى، يرى البعض ان هوية المصريين مثلا تتلخص فى الجلباب والشال والطاقية والرقص بالعصا وعند تقديم اى حدث مصرى كبير ستجد الامر محفوظا تماما.
●●●
وها هى المقادير الجاهزة لاضفاء روح الهوية انه مزيج من رجل بتنورة يدور على مجموعة ترقص على السمسمية ثم ننتقل إلى  رجال يلبسون الجلاليب  ويرقصون بالعصا مع نساء فى ثياب ذات وسط ضيق وايشارب فلاحى  ليدخل المزمار الصعيدى يعقبه تشكيلة بدوية الاداء والملبس مختلطة ربما بصيادين يرقصون مع شباكهم  ونختم بأغان وموسيقى  نوبية بملابسهم وألوانهم الزاهية المميزة هكذا تمت الهوية وكان الله بالسر عليما واذا اغرقت فى المحلية والهوية فلتضع فى ركن من اركان العرض عربة فول مدمس تحمل القدرة الشهيرة واخرى للترمس محاطة بالقلل القناوى، هذا التصور هو تصور سطحى ساذج وقديم وجاهز ولا يعكس اى قدر من الهوية بقدر ما يعكس كسلا وبلادة لا نهاية لهم.
●●●
الهوية المصرية اعمق من هذا واكثر جمالا وتجريدا، جميل بالطبع ان يكون هناك هوية بصرية وقد تطورت تطورا مقدرا ولكن الهوية هنا هوية روحية ومعمارية هوية تحتاج لفهم عميق وحقيقى وثقافى.
المعمار المصرى مثلا معمار بديع له طابع يطبع به كل تفصيلة وتستطيع ان ترى طابعه وروحه فى كل عمل فنى كبير دون الحاجة لان يرتدى الرجال والنساء ملابس فرعونية صريحة مباشرة، ولكن الهوية هنا حينما يلونها الفن الراقى الواعى بألوانه ستجد كل ما هو مصرى وفرعونى وقبطى وإسلامى دون ان تلبس الناس بما تعتقد انت انه الهوية، او تحيطهم بمعبد او غيره لكن  الهوية  بشكلها الفنى  لها  طابع وسمت ووسم تسم  به كل شيء.  
فيلم المومياء مثلا للمخرج المصرى نادر الوجود شادى عبدالسلام فيلم يحمل هوية مصرية خالصة دون ان يبالغ او يتاجر بالملابس والشكل الفرعونى الجاهز المتعارف عليه ولكن كل لقطة وكل كادر ينطق بالمصرية الخالصة فيلم مصرى حتى النخاع لان وراءه مخرجا ومثقفا ورؤية وديكورا وقصة وقصدا ونية مصرية خالصة.
هذا هو النموذج الفنى فى التعبير عن الهوية والمرجع أيضا لمن أراد أن يدرك القصد.
الهوية هنا شيء يتجلى فى الروح والعين واللون أكثر من أن يتجلى مباشرة  فالهوية السطحية هى دون ان ندرى تكريس لعولمة خفية، عولمة ترى اصلا ان الهوية مجرد فولكلور محلى يمكن استثماره واستهلاكه ضمن الاستهلاك العالمى اليومى وهنا تصبح الهوية السطحية اداة من ادوات العولمة لسحق الهوية الحقيقية للأوطان.
الهوية روح عظيمة حية وليست ايضا ماضيا محنطا او قبرا قديما.  ينظر احيانا بعض الناس الى الهوية على انها الماضى الذى تولى وهذا أيضا فى ظنى خطأ كبير وخطيئة فالهوية ماض وحاضر ومستقبل الهوية كائن حى وحياته ممتدة بحياة أصحاب تلك الهوية.
 فهوية المصريين كما أنها ليست ملابس ورقصات شهيرة هى ايضا ليست ماضيا فرعونيا فقط انها المزيج الحى  من أشياء متداخلة ومتعايشة بشكل فريد وغير مسبوق داخل تلك المساحة الجغرافية وعلى امتداد ذلك الزمن الطويل.
انها سبعة آلاف عام ومليون كيلو متر وإسلام ومسيحية ومئذنة سيدى ابى الحجاج فى قلب المعبد الفرعونى.
انها هوية لبلد صنعت حضارتها ومرت عليها كل الحضارات هوية خاصة ومعقدة وممتزجة بالآخرين ومتفردة عنهم.
 فى نفس الوقت هوية تحتاج إلى مثقفين وفنانين وفلاسفة وإرادة كبرى لتخلق وعيا يجعل الطفل الصغير يعلم انه قديم وعصرى وحالم بالمستقبل فيكبر هذا الطفل عاقلا قويا واثقًا بلا غرور محبا غير كاره متفائلا غير محبط صبورا غير واهن وذلك الهدف الاسمى من الهوية.
 جيل قادم يحلم بالافضل ويبذل فى سبيله كل شيء لانه الجيل الذى وصلت اليه فكرة الهوية فعرف من اين  جاء واين  يحيا والى اين  يسير خطواته القادمة ؟
الوعى اول المشوار
والوعى بالهوية يرتبط دائما بالبدايات بالطفولة بمناهج التعليم فى المراحل التعليمية الابتدائية ومناهجها ،على الطفل ان يجد منهجا يجعله واعيا بتاريخه وبقدر بلاده الجغرافى واعيا ايضا بإرادة ذلك الشعب الذى ينتمى اليه، اننا بحاجة لمنهج تعليمى واضح ومبسط وعلى درجة عالية الحرفية لربط خيال وعقل الطفل بالهوية المصرية، ربطا واعيا ايضا  يخلو من الشيفونية والتعصب والمبالغة ، لكن يخلق داخله الثقة بالنفس بأنه قديم على هذا الكوكب ومميز وراق ومشارك فعال مع العالم فى تقديم حضارة انسانية عظيمة وانه ابن حضارة عريقة تركت بصمتها فى الفنون والعلوم والعمارة والادارة.
على الطفل المصرى ان يعرف من خلال منهج تعليمى بسيط انه ابن دولة حقيقية استطاعت ان تحقق مفهوم الدولة على الارض قبل آلاف السنين دولة لها قانونها وحكامها وحكوماتها وجيشها ونظامها الاقتصادى وتقويمها وحساباتها الفلكية وعلومها وعلماؤها وفنونها وفنانونها.
وحتى تكتمل منظومة الوعى بالهوية وتصبح راسخة داخل ضمير كل مصرى يجب ان يدرك الجميع ان الوعى بالهوية ليس رفاهية وليست قضية خاصة يجب ان يسبقها اولويات كبرى، بل على العكس  فهو القضية الحاضرة الملحة وله الاولوية ويجب ان يدرك اهميته كل مواطن.
فالهوية ليست قاصرة على الاحتفالات القومية كى نتذكرها وليست خاصة بوزارة السياحة مثلا او وزارة الاثار لكنها تخص الجميع هوية رغم خصوصيتها لكنها جعلت العالم ينتبه الينا ويقدرنا تقديرا عظيما.
هوية لمسها  العالم فى كتابات نجيب محفوظ ونبرة صوت ام كلثوم وتماثيل محمود مختار ولوحات محمود سعيد وألحان سيد درويش وموسوعة سليم حسن وتوصيف جمال حمدان لمصر وعبقرية المكان والزمان  وتصميمات المهندس حسن فتحى وفتاوى الليث بن سعد وعبقرية اللواء باقى زكى يوسف صاحب فكرة خراطيم المياه التى ساعدت فى عبور خط بارليف، وغيرهم من الرجال والنساء الذين امنوا بالهوية المصرية وعلموا انها ليست مجرد ماض ولا زينة خارجية وليست بالطبع (طرحة) و (جلابية) لكنها مفهوم عميق عن معنى وحقيقة، روح بلد عظيم عريق يحمل مفاتيح التاريخ التى يستطيع بها ايضا العبور لمستقبل آمن بما يملك منه وعى شكلته هوية لا شبيه لها.
الهوية روح مصرية خالصة يحركها الوعى، تظهر جلية دون ادعاء ولا مباشرة فى دراما مصرية وسينما مصرية وادب مصرى بعيدًا عن ذلك المستنسخ من هويات أخرى ومقاومة أيضا لعالم مفتوح ومنصات تحاول أن تبث أغراضها وهويتها العالمية المغرضة وهو غرض منطقى جدًا ومشروع من قبل من يحارب هويتك الخاصة وخصوصيتك.
فالمنصات الجديدة تريد تنميطنا كمواطنين عالميين بلا هوية ولا خصوصية ولا معنى.
 تريد أن نكون (مانيكانات) نرتدى نفس القمصان ونفس البنطلونات، نتحرك وفق نفس الهوى، ونعيش وفق أفكار وتقاليد وأعراف أخرى ، فتحقق تلك الهجمة هدفها وهو الهدف الأخطر على الإطلاق، وهو تغيير روحك الأصلية، وخلق إنسان يتحدث فقط بلغة مغايرة، لكن تكوينه الداخلى صار تكوينًا آخر.
أمر .. لو تعلمون عظيم
يريدون استبدال العربى والمصرى بالنسخة العربية والنسخة المصرية والفرق بين التعريفين لو تعلمون عظيم، أن تتحول من كائن أصيل إلى مجرد نسخة من عدة نسخ عالمية، نسخة تعيش وتشعر وتفكر وفق قيم غير أصلية، يتم مسح الروح الأصلية واستبدالها بنسخة.
 الامر ليس فقط استنساخ الدراما والفكر والفن ولكن استنساخ الإنسان نفسه وتفريغ روحه وملؤه بالنسخة البديلة.
وإذا نجح هذا العدو الجديد فى ذلك الأمر – لا قدر الله – سنكون قد خسرنا الحرب الأخطر والأكبر والأقوى على مدى التاريخ، حربًا لم نخسر فيها أرضًا ولا عتادًا ولا خسائر بشرية، بل خسرنا فيها أرواحنا الأصلية والروح الأصلية التى يمكن تعريفها بالهوية، شيء لا يمكن تعويضه على الإطلاق، الوعى بالهوية هو الحائط الأخير، الذى سننجح بالوعى كما نجحنا من قبل أن ننتصر فيه ونثبت لكل عدو منظم وخبيث أننا ما زلنا نملك هويتنا وخصوصيتنا التى تجعلنا نستحق أن نحمل شرف الانتماء لهذا الوطن وتلك البقعة المقدسة من العالم الذى نعيش فيه ولسنا مجرد نسخ مبرمجة تابعة يتحكمون فينا كيفما شاءوا، فإرادة الأوطان تأتى من وعيها العظيم بهويتها فى الأساس.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة