الحقيقة التي باتت تدركها ميركل

بهدوء.. قال الرئيس عبدالفتاح السيسي للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل »أنتم لا تدركون حتي الآن معني أن ينزل ٣٠ مليون مصري من منازلهم، وأن يقفوا في الشوارع يوم ٣٠ يونيو، يريدون التغيير وإنقاذ بلدهم من شبح حرب أهلية يحوم فوق رءوس المصريين«.

وبحسم.. ردت ميركل علي السيسي:

«سيادة الرئيس.. لو لم نكن أدركنا هذه الحقيقة، ما كنا نستقبلك اليوم في هذا المكان!».

جاءت ملاحظة السيسي، ورد ميركل في ختام الجلسة الثنائية لمباحثات القمة المصرية الألمانية التي جرت ظهر أمس بدار المستشارية الألمانية في برلين.

هذه المساجلة الصريحة طوت نهائيا صفحة ظلت تخيم علي علاقات البلدين منذ ٣٠ يونيو ٢٠١٣، حينما تبنت ميركل موقفا غير مفهوم من ثورة الشعب المصري، وتمسكت به ما يزيد علي العام، ثم شرعت في مراجعته، مع اتصال تليفوني أجرته مع السيسي، وعدلت عنه بعد لقاء أكثر من ناجح جمع بينهما في دافوس يوم ٢٣ يناير الماضي.

أخيرا.. طويت هذه الصفحة أمس، وفتحت صفحة جديدة في العلاقات السياسية والتشاور بين البلدين تتصف بالنضوج، اساسها وجود مصلحة استراتيجية تربط مصر وألمانيا، تحتمل الاختلاف في وجهات النظر، وتحترم الرؤي وإن تعارضت، وتعتمد النقاش والحوار والزيارات المتبادلة منهجا لشرح موقف كل طرف، وتتطلب التركيز علي ما يجمع البلدين من مصالح حيوية في تحقيق الأمن والاستقرار بالشرق الأوسط ومكافحة الإرهاب بما يصون أمن واستقرار أوروبا، وتستوجب تعزيز علاقات الشراكة والتعاون المصري الألماني لمساندة المهمة الكبري التي تنتظر السيسي  علي حد قول الرئيس الألماني يواخيم جاوك ـ من أجل تأمين المعيشة الكريمة والديمقراطية لشعبه وتحقيق السلام والاستقرار لبلاده.

هذه المعالم للصفحة الجديدة في العلاقات المصرية - الألمانية، هي تقريبا فحوي كلمة المستشارة ميركل خلال المؤتمر الصحفي الذي عقدته مع الرئيس السيسي عقب مباحثات القمة، ومضمون اجاباتها عن اسئلة الصحفيين المصريين والألمان.

المؤتمر الصحفي تأخر بعض الوقت، ليس فقط لامتداد المباحثات التي جرت في لقاء ثنائي ثم علي مأدبة غداء ضمت أعضاء الوفد المصري المرافق للرئيس، لكن أيضا لتعطل المصعد المخصص لنقل السيسي وميركل من قاعة المباحثات بدار المستشارية الي الطابق الثاني، حيث توجد قاعة المؤتمرات الصحفية التي تحمل مداخلها لوحات زيتية لوجوه المستشارين الألمان السابقين، بدءا من كوزاد اديناور أول مستشار لألمانيا الغربية وحتي المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر.

ولعل في تعطل المصعد مغزي واشارة بأنه هناك دائما ما ليس في الحسبان، حتي في المانيا، البلد الذي يخطط بعناية، ويتحسب لكل طاريء، وينفذ بدقة هي مضرب الأمثال!

يكن الرئيس السيسي اعجابا شخصيا بالتجربة الألمانية وبالشعب الألماني الذي استطاع اعادة بناء بلاده ورفعها الي مصاف القوي الكبري بعد أن دمرتها الحرب العالمية الثانية تدميرا شاملا، وقسمت الدولة الي اثنتين والعاصمة إلي عاصمتين يفصل بينهما جدار يمزق أبناء البلد الواحد، ولا يداني اعجاب الرئيس بالألمان، سوي تقديره للتجربة اليابانية المماثلة ولعقيدة العمل التي يعتنقها الشعب الياباني.

يتوق الرئيس لنقل التجربتين والخبرتين، إلي مصر وهي تستعد لبناء دولة ثالثة حديثة، بعد دولتي محمد علي وعبدالناصر، خاصة ان دولة محمد علي كانت ملهمة لدولة الامبراطور ميجي الذي أسس نهضة اليابان.

ولعل هذا الإعجاب وذلك التقدير وتلك الرغبة هي سر حرص الرئيس علي زيارة ألمانيا، وعزمه علي تلبية دعوة اليابان لزيارتها في وقت ما من هذا العام.

١٨٠ دقيقة، استغرقتها مباحثات القمة المصرية - الألمانية امس في برلين.

هذه المباحثات جرت علي أصداء هتافات مدوية وأناشيد وطنية، كانت تتردد علي ألسنة جموع من مئات المصريين الذين توافدوا علي برلين من الولايات الالمانية ومن دول أوروبية قريبة، وأحاطوا بالرئيس منذ هبطت طائرته بمطار «تيجيل» مساء أمس الأول، وحتي وصل الي مقر إقامته في فندق «أدلون»، وظلوا علي الرصيف المقابل للفندق طوال الليل يحملون اعلام مصر وصور الرئيس، وتنقلوا منذ الصباح الباكر بين قصر «بلفيو» مقر الرئاسة الألمانية، ودار المستشارية الألمانية، وفندق «أدلون» ووزارة الاقتصاد.

بينما كانت المفاجأة، أن الذين جمعهم التنظيم الدولي للإخوان والقوي الاقليمية الراعية له، لم يتعد عددهم ثلاثين أو أربعين شخصا، غالبيتهم من أصول عربية غير مصرية!

جرت المباحثات أيضا في ظل حملة إعلامية في عدد من الصحف الألمانية، مازالت تصف ثورة ٣٠ يونيو بالانقلاب، والسيسي بالدكتاتور والإخوان بالقوة السياسية، انعكاساً لحالة غيبوبة ركن إليها الإعلام الخارجي المصري، وترك الاكاذيب تروج والباطل يرعي، دون رد أو تفنيد، وكان السيسي متألقاً بشدة وهو يشرح ويفسر في كلمته المرتجلة في المؤتمر الصحفي حقائق ما جري ويجري في مصر، وكأن مكتوباً عليه داخل البلاد وخارجها، أن يقوم بعمل أناس يعجزون عن مباشرة أبسط مهام هي في صميم مسئولياتهم!

لقاء برلين، كان اللقاء الثاني بين السيسي وميركل بعد لقائهما الأول في دافوس الذي استغرق ٤٥ دقيقة وتم منذ ١٣٠ يوماً.

يومها.. بدا الرئيس مرتاحاً لنتائج مباحثاته مع ميركل، وقال لي: إنها كانت ناجحة للغاية. فقد أظهرت تفهما للأوضاع في مصر وللخطوات السياسية علي صعيد خارطة المستقبل ودور مصر في تحقيق الاستثمار بالشرق الأوسط.

في ذلك اللقاء روي الرئيس ملخصاً للأوضاع التي أدت إلي ثورة ٣٠ يونيو، وأنصتت إليه ميركل باهتمام وقالت: إن نظام الإخوان كان يقود مصر إلي طريق آخر، والحقيقة أنهم اخفقوا في أشياء كثيرة أهمها إدارة الدولة.

وفي مباحثات الأمس.. تحدثت ميركل عن حرص ألمانيا علي أن تكون شريكة لمصر، الدولة التي تعتبر مركز الثقل في الشرق الأوسط، وأبدت رغبتها في الاستماع إلي رؤية الرئيس لما يجري في الشرق الأوسط، ثم تطرقت إلي أحكام الإعدام التي صدرت بحق عدد من قيادات الإخوان وعلي رأسهم الرئيس السابق محمد مرسي، وشرح لها الرئيس السيسي اجراءات النظام القضائي المصري في شأن أخذ رأي المفتي في الأحكام، وضمانات الطعن عليها من جانب النيابة أمام محكمة النقض.

وشدد الرئيس علي المكانة الكبيرة التي تحتلها ألمانيا في نفوس المصريين والعلاقات القوية التي تربط البلدين، وقال لميركل: المهم أن تروا ما يحدث في مصر من منظورنا أيضا وليس بعيونكم فقط. وأضاف ان مصر الجديدة تحترم حقوق الإنسان وتعمل علي إرساء دولة الديمقراطية، وتحرص علي اجراء الانتخابات البرلمانية في أقرب وقت لاستكمال بناء مؤسسات الدولة.

في المؤتمر الصحفي المشترك عقب المباحثات.. قالت ميركل إن هناك عوامل اتفاق بين البلدين فيما يتعلق بعلاقات الشراكة، ورغبة ألمانيا في مساندة مصر في سعيها نحو الاستقرار والرخاء، وإدراكها لدور مصر المركزي في عملية السلام ومكافحة الإرهاب، وأشارت إلي ان هناك أيضا عناصر اختلاف أهمها عقوبات الإعدام التي لا تطبق في ألمانيا وترفضها حتي لو كانت ضد الإرهابيين، وقالت أيضا ان الاختلافات ليست جديدة في علاقات البلدين، وقد انتقدنا أوضاع حقوق الإنسان عندما التقينا مع الرئيس الأسبق مبارك، وقلنا رأينا أيضا في بعض الأمور عندما جاءنا الرئيس السابق مرسي.

أما الرئيس السيسي فقد نحي كلمته المكتوبة جانبا، وارتجل كلمة استبق بها ما كان يدور في خلد الصحفيين الألمان!

كما قلت كان الرئيس متألقا وهو يشرح بعبارات مركزة حقيقة ما جري ويجري علي أرض مصر في نقاط محددة:

- لستم وحدكم الذين تؤمنون بالحريات والديمقراطية.. نحن أيضا نؤمن بهذه القيم ونتمناها، لكن لقصور لدينا لم نستطع أن نوصل رسالتنا إلي العالم.

- لولا شعب مصر الذي خرج بالملايين لمكافحة الفاشية، لكانت بلدنا سقطت في أتون حرب أهلية، ولكان 90 مليون مصري قد أصبحوا لاجئين يتلقون منكم مساعدات مالية تلقيها الطائرات.

- الرئيس السابق محمد مرسي كان منتخبا ديمقراطيا وحصل علي 51٪ من الأصوات. ونفس الشعب الذي أعطاه هذه النسبة لم يجد وسيلة لنزع الشرعية عنه إلا الخروج في الشارع.

- جيش مصر تربطه علاقة خاصة بشعب مصر. انه جزء من الشعب ينبض بنبضه وهو ملك للمصريين وليس لحكام بدءا من مبارك وحتي السيسي.

- مصر دولة دستور منذ مائة عام، تحترم القضاء وليس لأحد أن يناقش أحكامه، وضمانات العدالة مكفولة، والأحكام الغيابية تسقط قانونا بمجرد مثول المتهم الغائب أمام المحكمة ليحاكم من جديد.

- إذا كنتم أنتم حريصون علي الحياة وعلي الإنسانية، فنحن دولة ذات حضارة ولا تستكثروا علينا أن نكون حريصين أيضا علي الحياة وعلي الإنسانية.

قبيل مباحثات القمة.. جرت في قصر الرئاسة الألماني مراسم الاستقبال الرسمية للرئيس السيسي، ثم اجتمع السيسي مع الرئيس الألماني يواخيم جاوك في لقاء سادته المودة، وعبر فيه جاوك عن ترحيبه بالسيسي قائلا: اننا نكن لكم احتراما شديدا، ونعرف ان توليكم السلطة كان من أجل تحقيق السلام والاستقرار للشعب، ونؤكد دعمنا لكم في مهمتكم الكبري لضمان العيش الكريم لشعبكم والتحول نحو الديمقراطية.

بعد مباحثات القمة التقي السيسي في مقر اقامته مع فالترشتاينماير وزير الخارجية الألماني واستعرض معه الأوضاع في إقليم الشرق الأوسط، وقال له: اننا نتفهم الضغوط التي تتعرضون لها في شأن علاقاتكم مع مصر. لكننا نريد منكم أن تعرفوا الحقائق عن ظروفنا، وتنظروا إليها ليس من منظوركم فقط، وإنما من منظورنا أيضا.

في ختام اليوم الأول لنشاطه في العاصمة الألمانية، التقي الرئيس السيسي مع زيجار جابرييل نائب المستشارة الألمانية ووزير الاقتصاد والطاقة، وشهد معه التوقيع علي 4 عقود واتفاقات، أهمها إنشاء 3 محطات كهرباء بطاقة 13.4 ميجاوات وتكلفة 10 مليارات دولار تنشئها شركة «سيمنس» الألمانية العملاقة.

ويبقي أهم حصاد اليوم، تدشين صفحة جديدة في علاقات مستقرة ناضجة لا تزعزعها اختلافات في رؤي أو وجهات نظر، تسودها الصراحة والرغبة في تفهم مواقف وظروف كل طرف.