سمير الجمل
سمير الجمل


يوميات الاخبار

شاشة.. فى قبر المرحوم!!

الأخبار

الأحد، 13 فبراير 2022 - 07:43 م

يكتبها اليوم : سمير الجمل

واستبد به الشك أنهم قرروا تشييعه إلى مثواه الأخير فى ميكروباص.. وأن إمام المسجد هو الشيخ «حمو بيكا»

هل ضاقت الدنيا على هذا المرحوم يترك القاهرة كلها على اتساعها وتخرج جنازته من قلب شارع رمسيس.. ويوقف حال الناس زيادة على ما يكون عليه فى تلك البقعة التى هى أشبه بالدنيا والآخرة معا.. ولكل منهم فى «باب الحديد» شأن يغنيه ويلهيه عن غيره.
- المرحوم أصله كان صحفيا وهو من أوصى بخط سير الجنازة.. ورسم لها المانفيستو وطلب تنفيذه بكل دقة..
هكذا همس أحد المنتظرين داخل سيارته إلى من يجلس بجواره وقد رفع إصبعه وهو يشهد بأنه لا إله إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.


صاحبنا وقد تمدد داخل الصندوق الخشبى كان يتمنى فى حياة عينه لو أنهم غطوا الصندوق بعلم الزمالك.. لكن أحد الأصدقاء نصحه بألا يفعلها وإلا تحولت الجنازة إلى فتنة وربما غاب عنها الأهلاوية وهم العدد الأكبر.. وسيحرم نفسه من زيادة المشيعين وهى تدخل فى حسابات المشهد الأخير إن كان صالحا أو دون ذلك وقد ثبت فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه».
وتحسبا لموقف مثل هذا والناس فى دنياهم أشبه بقطع الملابس فى الغسالة الأتوماتيكية.. كتب كشفا بالأسماء التى اصطفاها واختارها بعناية وفقا لحسن السير والسلوك وأداء الخدمة العسكرية.. لأن الجانب الوطنى لا ينفصل عن الأخلاقى هكذا كان يردد فى أغلب الأوقات وإتماما لهذه المهمة على أكمل وجه كلف أحد أقاربه بأن يتولى عملية إحصاء المشيعين وأن يبلغه بها.. والميت يشعر بمن حوله كما جاء فى الأثر..
وكانت الصدمة: العدد «٣٩» فقط وهكذا يدخل دائرة الخطر فهل يتم احتساب من يقف على الرصيف متابعا للجنازة.. أم فقط من يشارك فيها عمليا ويسعى خلفها.


وفى لحظة انتظار المكمل للأربعين.. جاء الفرج من شخص لم يكن يتوقع بحال أن يكون هو.. لأن ما بينه وبين المرحوم أغلظ وأشد مما بين ريال مدريد وبرشلونة والبوسنة وصربيا.. فهو ظله الظليل الذى ينط له فى كل خرابة تواجد فيها.. عينه على موقعه فى الصحيفة وغرفة مكتبه وهى تطل على الشارع الرئيسى.. لكن الله عوضه خيرا بمقر إقامته الدائم بذلك القبر بوجهته البحرية على الطريق مباشرة وقد توافرت فيه إمكانيات النومة السعيدة ولا ينقصها إلا شاشة فيها خاصية نقل مباريات الدورى الإنجليزي.. وكأس أوروبا - يا سلام دى تبقى موتة ولا فى الأحلام.


وما إن جاء المكمل للأربعين حتى انسلخ ثنائى قبل خطوات من المسجد الذى تقام فيه الصلاة على المرحوم.. لأنهما على غير طهارة.. فهل يكتمل النصاب وتتم الأمور على خير؟.


كان يود أن يدق بكف يده على جبهته كما كان يفعل فى الوضع مندهشا أو مصدوما أو ناسيا.. ثم اكتشف أن اليدين معقودتان على صدره داخل الكفن كأنه أحد ملوك الفراعنة الذين يعرف زاهى حواس الأثرى الخبير أنسابهم كأنه منهم.


كان واثقا أن العدد سوف يزيد على الأربعين ولن ينقص.. إذا تزامنت الصلاة على جثمانه مع صلاة الظهر فى المسجد الكبير.. إلا إذا تصادف وقتها إقامة مباراة مهمة للفريق القومى خارج الديار.. وقتها يكون الحى أبقى ألف مرة من ألف ميت.
هو الآن أمام محراب المسجد فى انتظار الصلاة.. ويشعر أنها كملت على خير.. وأن الأمور تجرى بإيقاع أسرع مما توقع.. فسرها بعض أولاد الحلال بأنها تدل على كرامة الميت الذى يتعجل الرحيل من هذه الوجوه الجافة تماما من الانفعال ومن دمعة واحدة.. ولو من باب المجاملة وهناك من يحزن على كلبه أو قطته أكثر من ذلك.. وهو نفسه الذى يريد أن يشرب من دم خادمته إذا تأخرت عليه بفنجان القهوة أو داهمها النسيان عن تقديم وجبة الغداء للباشا الكلب.


يبدو أن المشاعر مع مشاهد القتل والحروب والجرائم تبلدت وتحجرت وأدمنت أنهار الدم تجرى بلا توقف بين المنبع والمصب.. وإبراهيم الأبيض وأولاد رزق وموتة.


فى تلك اللحظة الفاصلة التى طلب فيها إمام المسجد أن يتقدم أحد أقاربه يؤم الصلاة.. وأن تتضاعف الصفوف ما أمكن وأن يكون التكبير فى السر.. لأننا لسنا فى عيد الأضحي.. لكنها جنازة ومن طرق الموت بابه كان يصحو كل صباح وقبل أن يضرب طبق الفول يود أن يضرب دنياه بألف برطوشة قديمة ثم ينزل من بيته يسعى فى دروبها كأنه سيعيش مخلدا فيها.. يطارد أسباب الحياة ما ظهر منها وما بطن.. نادى الشيخ ولم يتقدم أحد من أهله وسادت لحظة من الصمت المكان كله.. كأنهم انضموا إليه فى سجل الأموات.. حتى قطع هذا الصمت قبل تكبيرة الإحرام.. رنات المحمول مع أحدهم.. بأغنية أحمد شيبة:
آه لو لعبت يا زهر.. وأتبدلت الأيام
ارتبك من رنين تليفونه.. وبدلا من أن يقطع لسانه داست أصابعه المتوترة على موضع أغنية أخرى مهرجاناتية:
تتغاظ
عارفك يالّى مننا متغاظ
مخك فاضى مخنا ألماظ
وكان صاحبنا داخل صندوقه يكاد يضحك.. واستبد به الشك أنهم قرروا تشييعه إلى مثواه الأخير فى ميكروباص.. وان إمام المسجد هو الشيخ «حمو بيكا».. لكن ما جعله ينشرح ويتمدد أن أعداد المصلين كانت قد زادت مما أضاف أمام الاربعين صفرا آخر.. وشوية فكة وثقة فى رحمة ربه ومولاه.. استبشر أنها خضراء بإذن الله.. وأن الأمور حتى هذه اللحظة تجرى فى يسر.


هو بطبعه لا يميل إلى الاستعراض بسيط الملبس والتصرف.. لكنه أرادها فى المشهد الأخير استعراضية بعض الشيء.. ورسم البروجرام فى سيناريو دقيق.. سلم نسخة منه إلى صديق عزيز فى مقر عمله.. كان يتقاسم معه أرغفة الحواوشى المشطشطة وفطائر السكر والعسل.. وتركيبة الرنجة الخرافية التى تحتضن الفلفل والطماطم والبصل والطحينة وزيت الزيتون.. وما تيسر من التوابل المعتبرة.. وهى معادلة لا يمكن أن تكتمل إلا بأرغفة بلدى طالعة من الفرن مباشرة.. مع نصف دستة من أكواب الشاى الصعيدى وكل ما كان يشغله ومنذ أن بلغ الخمسين أن كفة الموت فيما تبقى من العمر أثقل من كفة ما مضى من الحياة وهو يريد فى يومه الأخير أن يكون رشيقا وخفيفا.. يحملونه فى سهولة.. وقد سمع مرارا وتكرارا عن فلان الذى كان يهرول بالخشبة.. حتى شهدوا له بأنه من النوع المفتخر بين الموتى.. لكنه لم يسأل نفسه: كيف يجرى وهو نائم إلا أن يكون هو الطيران بلا أجنحة.. وقد صدق فيهم قول الشاعر:
ألا موت يباع فأشتريه.. فهذا العيش ما لا خير فيه
إذا أبصرت قبرا من بعيد..  وددت لو أنى مما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حر.. تصدق بالوفاة على أخيه
ياه.. أيها الموت كم تأخرت.. وكم اقتربت ثم ابتعدت كأنك تلاعبني.. تذكر يوم ان وقف وهو ابن العاشرة يحمل اخته الصغيرة ذات العام الواحد على كتفه.. يراقب تلك المباراة على الاسفلت وبين ظهرى وشريط السكة الحديد مسافة لا تزيد على المتر.. ضاقت من أثر الانفعال مع الماتش حتى لسعه هواء القطار وهو يمرق خلفه.. ولا يعرف كيف تصلب فى حركته هو والصغيرة.. وانشغل العيال بلعبهم إلا امرأة كانت تنشر الغسيل فى بلكونة تتابع المنظر.. وتشهد عليه.. صرخت.. والحمد لله انها فعلتها بعد أن مضى القطار لأن تأثره كان من شأنه أن يرتمى هو والنونة فى أحضان ذلك الكائن الأعمى الذى لا يعرف العدو من الصديق.. فكل من جار على حرم شريطه الحديدي.. فهو له.. قد يأخذ منه الساق أو الذراع.. أو يلتهم الضحية كلها بلا نقض ولا إبرام.


وفى أخرى.. بعد الأولى بعد ٥٠ عاما.. عندما أراد صديقه المخرج أن يغير مساره إلى الطريق العكسى عبر تلك الفتحة نصف الدائرية.. جاءت سيارة نصف نقل لكى تضرب مؤخرة الملاكى التى جلس فى مقعدها الأمامى بجوار المخرج فإذا بها تطير إلى جانب الطريق كأنها ريشة فى هوا أطلقها المطرب سعد عبدالوهاب.. وقع كل هذا فى غمضة عين حتى أن الغالبية ممن تتواجدوا على الطريق فى تلك اللحظة ذهابا وإيابا.. لم يسعفهم الوقت لالتقاط ذلك الفيديو وهم يشهرون الموبايل فى ايديهم.. فى كل خطوة.. بحثا عن ذلك العفريت المسمى «بالتريند»..


العربة أخذت الضربة وأصابتها دوخة ترنحت على آثارها ونامت بجوار الرصيف كما نام الإطار وأصبحت فى نصفها الأخير قطعة من الخردة.. تماما مثلما جرى معه بالقرب من مقابر الغفير بنفس السيناريو تقريبا.. لكن باختلاف نوعية السيارة.. وعدد الركاب الذى تقلص ليصبح واحدا فقط وهو عادة اذا ساقها منفردا شطح وسرح.. وقد يركب الرصيف الوسطانى فى نهر الطريق.. فيطلع وينزل كأنه أحمد السقا فى حركة من حركاته.. حتى نظر إليه احد المارة وضع كفه بالقرب من اذنيه وهو يدير اصابعه بعلامة الجنون.. وكان محقا..
هى نفس السيارة التى أفلتت من الرصيف.. لكن عند المقابر تحرش بها «تاكسى قديم متهالك».. لكن الضربة كانت مؤلمة.. جعلت النصف الخلفى يندمج فى النصف الامامى لتصبح نصف سيارة.. وخرج صاحبنا منها بلا خدش.


جرى كل هذا فى نهار رمضانى لا تنفع معه شربة ماء تبل ريقه من الخضة.. وسبحان من ينزل البلاء على سهوة فلا تعرف بأمره وتفاصيله الا بعد ان تجاوزه.. انها تقريبا ما جرى معه عندما خرج السر الإلهى وهو نائم فما بالكم اذا ذكر موت اشمأزت نفوسكم.. ومهما تفرون منه فإنه ملاقيكم وهو يوم الحصاد لمن زرع فى دنياه.. ويوم الحسرة على الذين فرطوا فى الكتاب لأجل كل شىء ففقدوا كل شىء.
فى رحلة العمرة الأولى لوالده جمع أولاده لدى الباب وأوصاهم:
- اسمعوا.. على الله أموت فى مكة أو المدينة.. وحد يقول عايزين ابونا.. فاهمين..
● طبق الأصل مما كتبه المرحوم وهو على قيد الحياة.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة