يوسف القعيد
يوسف القعيد


يوميات الأخبار

متحف الأستاذ هيكل

يوسف القعيد

الإثنين، 14 فبراير 2022 - 04:33 م

هنا كان يجلس عبد الناصر. هنا قابلت تيتو. هنا تحدثت مع زعماء العالم المعاصرين واستمعت إليهم.

تحركتُ من القاهرة يوم الثلاثاء الماضى قبل السابعة صباحاً. لكى أكون فى مكتبة الإسكندرية قبل موعد افتتاح متحف المرحوم الأستاذ محمد حسنين هيكل «23 سبتمبر 1923 - 17 فبراير 2016»، وأنا أردد لنفسى المثل الذى حفظته من أيام قريتى الضهرية مركز إيتاى البارود محافظة البحيرة:
- البركة فى البكور.

لأن موعدى فى مكتبة الإسكندرية بقيادة الدكتور مصطفى الفقى، المثقف المستنير. والذى جعل من مكتبة الإسكندرية منارة يُهتدى بها. قد جرى الاتفاق بينى وبين أسرة الأستاذ هيكل على تاريخ لافتتاح متحفه ليس بعيداً عن ذكرى رحيله عن الدنيا.

وأعتذر عن أننى وصفته لأول مرة بالمرحوم. وأكتب الآن عن رحيله عن الدنيا. فالرجل باقٍ بيننا. وسيظل خالداً أبد الدهر بما أنجزه من مشروع فكرى وسياسى وصحفى يندر أن يتمكن إنسان واحد مهما كانت قدراته أن ينجزه. فالأستاذ هيكل حكاية إنسانية نادرة. يدركها ويتمعن فيها كل من اقترب منه.
 وقد كان من حسن حظى وأعتبر ذلك من علامات يُمن الطالع أننى تعرفت عليه وتحاورت معه حول تجربة خالد الذكر جمال عبد الناصر الثقافية. وكتابى معه عنوانه: محمد حسنين هيكل يتذكر عبد الناصر والمثقفين والثقافة. صدرت طبعته الأولى عن دار الشروق، لصاحبها ومديرها المهندس إبراهيم المعلم.
 أما الطبعة الثانية فقد صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. بتشجيع من رئيس مجلس إدارتها المثقف الكبير والإدارى الثقافى المهم الدكتور هيثم الحاج على. ومنذ رحيل الأستاذ هيكل عن الدنيا - ولا أستطيع أن أكتب اسمه إلا مسبوقاً بكلمة الأستاذ - ففى مصر الستينيات عندما كنا نقول الزعيم فكنا نقصد عبد الناصر العظيم. وعندما نذكر الست فنحن نتحدث عن كوكب الشرق أم كلثوم. لكن حينما كنا نقول الأستاذ فنحن نقصد هيكل دون سواه. الذى أمم هذا اللقب قبل اسمه. ولم يدانه أحد. ولم يستطع غيره الاقتراب من الأستاذ.
 وقد فكر الأستاذ فى حياته فى مصير مقتنياته. وأصول مقالاته بخط يده التى تحولت لكتب مهمة وخرائط كان يحتفظ بها فى مكتبه، ومراسلات بل ووثائق شديدة الأهمية بالنسبة لتاريخ مصر المعاصر بخط يد الزعيم جمال عبد الناصر.

برقــــــاش
 ولأن الشيء بالشيء يذكر فقد فكر الأستاذ هيكل إبان حياته فى كل هذا التراث المهم. واتجه تفكيره فى البداية إلى مكتبه ومكتبته فى برقاش. الضاحية القريبة من القاهرة. ولأنه مثل كل العظماء كان معنياً بالتفاصيل الصغيرة فقد فكَّر أن يتم تخصيص سيارة أتوبيس تتحرك يومياً من مكتبه بالجيزة إلى برقاش رغم قربها الشديد من القاهر لتنقل من يريدون زيارة متحفه وتعود بهم آخر النهار بعد أن يكونوا قد تشبَّعوا روحياً من الزيارة المهمة.
 لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. خاصة إن كان هذا الإنسان هو الأستاذ هيكل ومن المؤكد أن أمنيته تاريخياً يتوقف الزمان أمامها طويلاً. فضمن أحداث ثورة يناير 2011 وما بعدها. قامت عناصر من الجماعة الإخوانية بالعدوان على مكتبته فى برقاش والاستيلاء على كثير مما كان فيها من الأوراق المهمة والوثائق النادرة والكنوز الفريدة والصور التى لا وجود لها إلا هناك.

وقد زرته فى برقاش مثل غيرى من تلاميذه ومريديه مرات. وتجولت معه بأرجاء المكان. وأشار إلى أماكن. وقال لى:
- هنا كان يجلس عبد الناصر. هنا قابلت تيتو. هنا تحدثت مع زعماء العالم المعاصرين واستمعت إليهم.
 ولذلك كانت لوعتى على ما فعله المخربون مضاعفة. لأنى أعرف البعد العاطفى لعلاقته بالمكان. وحلمه بتحويله إلى متحف بعد رحيله عن الدنيا. كانت تلك فكرته الأولى. لكن عندما امتدت يد الغدر الآثمة للمكان ودمرته بهمجية وبربرية. كانت جزءاً من محاولة العدوان على كل ما هو مشرق فى بر مصر.

نقابة الصحفيين
 عندما كان الزميل يحيى قلَّاش نقيباً للصحفيين، فكَّر الأستاذ فى أن يكون متحفه بالنقابة باعتبار أن اعتزازه بالمهنة لا يصل إليه أى اعتزاز آخر فى حياته. كان يعتبر نفسه «جورنالجياً» قبل أى صفة أخرى يحب أن تُطلق عليه. ويومها تبرع الأستاذ لنقابة الصحفيين بمبلغ مالى كبير. ليتم تحويل الدور الرابع من المبنى إلى متحف لهيكل.

لكنه خلال عمليات التفكير فى الموضوع عدل عن رأيه. وإن كان لم يسترد المبلغ الذى دفعه. وتبرع به لصندوق معاشات الصحفيين. وأرجأ التفكير فى مكان مخطوطاته النادرة ووثائقه المهمة ومكتبته التى تحتوى على أندر الكتب التى قرأها بحياته. كان البحث عن مكان بديل لمكتبته يشغله. بعد أن دمر الإرهابيون والذين حاولوا تدمير كل ما هو جميل فى مصر بالعبث بمحتويات مكتبته وتركها أطلالاً ونهب ما فيها من وثائق ومستندات تُعد جزءاً من تاريخ البلاد.
 وهكذا رحل الوحيد فى تاريخ الصحافة المصرية الذى استحق بجدارة لقب الأستاذ. أطلقناه عليه. بل أصبح فى بعض الأحيان بديلاً للاسم دون أن يُحدد المكان الذى يمكن أن يودع فيه ما تبقى من إرثه المهنى النادر.

إلى أن فكرت الأسرة السيدة الجليلة هدايت تيمور، رفيقة دربه وشريكة عمره، وأبناؤه الدكتور على، والدكتور أحمد، والدكتور حسن، فى مكان تودع فيه هذه الوديعة الغالية من تاريخ مصر الحديث. واستقر رأيهم على مكتبة الإسكندرية لتكون مقراً لهذا الإرث المهم والتاريخى. وهكذا جرى الاتصال بالدكتور مصطفى الفقى المثقف والسياسى والمفكر العضوى والذى يتولى إدارة المكتبة.
 جرى ذلك قبل ثلاثة أعوام. وما إن تم الاتفاق بين الأسرة وبينه حتى تم تخصيص جزء كبير من المكتبة ليكون متحفاً لهيكل. وجرى نقل المقتنيات إلى هناك ووضعها وتركيبها بطريقة لو رآها هيكل وهو فى عالم الغيب لأبدى رضاءه عنها تماماً. بل وسعد بذلك. واعتبره ذاكرة حيَّة لمسيرته ومصيره وما أنجزه عقله الجبار وخياله الواسع فى رحلة عمره الإنسانية والصحفية والفكرية.

يوم افتتاح المكتبة وأنا فى الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية فى الذهاب، ثم من الإسكندرية إلى القاهرة فى العودة فى نفس اليوم. وقد صحبتنى ابنتى رباب الإعلامية بقناة نايل سينما بناءً على رغبتها وطلبها. ولولا أن حفيدتى أمينة لديها امتحانات فى المدرسة، فهى فى السنة الثانية الثانوى، لجاءت معنا إلى هناك.
 كنت أستحضر مشوار الأستاذ هيكل باعتباره أهم صحفى أنجبته مهنة الصحافة منذ بواكيرها وحتى الآن. ولا يدانيه فى هذه الأهمية أحد حتى من اعتبرهم أساتذة له وأشاد بهم وكتب عنهم لتواضع الكبار وفهم العباقرة. ولعل أبرزهم الأستاذ محمد التابعى.
 بعد افتتاح المتحف والقيام بجولة بين أندر من تركه لنا الأستاذ سواء من كتب أو أوراقه الخاصة أو وثائق جمال عبد الناصر النادرة صديق عمره، وعدد من الخرائط التى لا وجود لها. وشهادة ميلاد الأستاذ وبطاقته الشخصية. وأخطر أوراقه والكتب المهمة التى احتفظ بها طيلة عمره.
 وقد بحثت كثيراً عن كتابى الحوارى معه عن جمال عبد الناصر. ولأن البحث كان يتم فى زحام الحاضرين لم أهتد إلى مكانه. وإن كان لدىَّ يقين أنه موجود، لأننى تأكدت من وجوده فى حياة الأستاذ. فى مكتبته المهمة والنادرة التى كانت بمقره الذى كنت أسميه: مكان الضمير الصحفى المصرى والعربى والعالمى فى قرننا العشرين. والسنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين.

كلمتان للتاريخ
 قبل القيام بالجولة ألقى الدكتور مصطفى الفقى كلمة مرتجلة طويلة ومهمة، لخَّص فيها أهم الأفكار التى عبَّر عنها فى مقاله المنشور لصحيفة الأهرام فى نفس يوم افتتاح المعرض. ثم ألقت كلمة الأسرة السيدة الجليلة هدايت تيمور، وتحدثت فيها عن هيكل ومكتبته وعبَّرت عن رضاء الأسرة بالافتتاح المهيب للمكتبة التى حضرها مريدو الأستاذ.

وجاء فى كلامها الكثير عن محتويات المكتبة المهمة. وأنا أعتبر بعد افتتاح متحف هيكل بمكتبة الإسكندرية أن هذا المتحف سيكون أهم هدف لزوار المكتبة، ليس فى الأيام القادمة ولا الشهور. بل فى السنوات والدهور الآتية. وسيمثل ذاكرة حية لأهم عشَّاق مصر والصحافة والحقيقة. ألا وهو الأستاذ محمد حسنين هيكل الذى قلنا عنه فى حياته «الجورنالجى» ومازالت الكلمة التى يمكن أن نصف بها رحلة إبداعه الصحفى.
 فالإبداع ليس فقط أن تكتب رواية أو قصة أو أن تقول شعراً. بل إن العمل الصحفى به قدرٌ من الإبداع لا يقل أهمية عن أى إبداع آخر. وهذا سر تميز هيكل وتفرده وفرادته على مر العصور وكر السنوات.

فى رحلة الذهاب والعودة من القاهرة إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية إلى القاهرة كان الأستاذ هيكل رفيق الرحلة. حاضراً رغم الغياب. ولحضوره بهجة من نوع خاص. وكان هناك فى مكتبة الإسكندرية كوكبة من محبيه ومريديه، لو دوَّنت أسماءهم وهذا حقهم علىَّ ما كفت مساحة اليوميات من أولها إلى آخرها لذكرهم. أستميحهم عذراً وأعتذر لهم مقدماً. فقد قطعوا المسافة من القاهرة إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية إلى القاهرة للتعبير عن عشقهم للأستاذ وحبهم لعطائه، وتقديرهم لرحلته المسكونة بالحب. وفى المقدمة منهم أسرته التى حرصت على التواجد بيننا.
 وقد علمت أن الدكتور على محمد حسنين هيكل كانت لديه رحلة لخارج البلاد، واعتذر عنها. وأن الدكتور أحمد كانت عنده مواعيد كثيرة. أجلها دون تفكير ومن غير مقارنات. وفضَّل أن يكون موجوداً فى رحاب ذكرى والده العطرة، ومع والدته التى ضربت المثل فى الإخلاص والتفانى والتعبير عن محبة نادرة لم نجدها إلا فى الأساطير القديمة. أما فى زمننا، فمن النادر أن نجد مثيلاً لها.

عُشَّاق هيكل
 أنظر فى وجوه الحاضرين الذين جاءوا للاحتفاء بهيكل بقيمته وتجربته الإنسانية والصحفية التى لم تحدث. مع أننى لا أحب الحكم على المستقبل الذى قد لا أكون موجوداً فيه.
 ولكن هيكل يبقى رمزاً إنسانياً وثقافياً وفكرياً ومهنياً من النادر أن يتكرر. يبقى الشكر واجبا علىَّ لأسرة هيكل العظيمة التى احتفظت بكل هذا التراث الجميل وحافظت عليه واعتبرته هدية نادرة من الرجل للأجيال الآتية. وأيضاً للدكتور مصطفى الفقى ومكتبة الإسكندرية على حفاوتها بهيكل. وتخصيص مكان من أهم الأمكنة فيها لتراثه العظيم.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة