علاء عبدالوهاب
علاء عبدالوهاب


يوميات الأخبار

حكاية جيل آن له أن يحكى

علاء عبدالوهاب

الثلاثاء، 15 فبراير 2022 - 07:35 م

 

البوح هنا حق وواجب، ولا مجال لحديث عن حرية الصمت، فتاريخ الصحافة ـ صحفا وصحفيين ـ أحد أركان التاريخ الوطنى العام.

جيلنا ولد من مخاض صعب، إذ ترعرع فى ظروف مركبة، ولدنا، ثم كان صبانا وشبابنا فى أتُون تجربة صهرتنا بمزيج من الرجاء واليأس، الزهو والألم!
بقدر ما كان جورنالجيا بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، كان بذات القدر مُحدثاً لا يشق له غبار، يمتلك ناصية الحديث من أى طرف أمسكه، يُضفرّ المعلومة بالتحليل، والخبر بالاستنتاج، ويمزج الآنى بجذوره التاريخية.


عن ياسر رزق أكتب.


جمعتنا منذ اللقاء الأول أخوة حميمة، دشنها عمى فتحى والده، الذى رحل هو أيضا مبكرا، وكان صحفيا بارزا ونقابيا عتيدا، وكأن ياسر ورث منه چيناته!
ومن قلب أخوة يظلها تقارب فكرى، نشأت صداقة وطيدة، بدأت حين كان ياسر يبدأ مشواره الدراسى بإعلام القاهرة، مواكبا لرحلته فى بلاط صاحبة الجلالة، وبالتحديد فى «الأخبار»، بينما سبقته بسنوات، فكنت أول من عرفه، أو بدقة قدم كلنا للآخر عمى فتحى، بعد أن أجاز مروره من الكاتب الكبير موسى صبرى، فاصطحبه إلى صالة تحرير «الأخبار»، واحتسينا ثلاثتنا القهوة، التى كانت طقسا يجمعنى بالوالد، فانضم إلينا الابن النابغ.


منذ البداية لمحت فيه ثمة تهيؤا فطريا للإبحار فى نهر الصحافة الهادر، بما حباه الله من ذكاء متوقد، وسرعة فهم للأمور بمجرد الإشارة إليها، ثم خصوبة فى توليد المعانى، صاحبه ذلك منذ وطأت قدماه «الأخبار» ليحترف مهنة ملكت حياته على مدى أربعين عاما.


>>>


كشريط سينمائى مرت ذكريات بلا حصر جمعتنى بياسر الإنسان، الصحفى، الأخ، الصديق، الزميل، وهو من جمع بين كل تلك العلائق فيما بيننا.
استرجعته مرات، ومرات، منذ بلغنى نبأ رحيله الفاجع عبر الهاتف بعد نحو ساعة من وفاته.


تذكرت لحظتها المكالمة الأخيرة بيننا، التى ألح خلالها على دعوتى لفنجان قهوة، ليهدينى كتابه، بعد أن حقق لى ما تمنيته عليه مرات عدة:

يا أخى فى ذمتك شهادة لا تؤخرها، أنت لا تملك ترف حرية الصمت، لديك ما ترويه وهو كثير، ليس سردا لوقائع فحسب، وإنما معلومات تنفرد بها، ووقائع ربما لم يشاركك فى الاطلاع عليها إلا قلة، ربما أقل من أصابع اليد الواحدة.


هنا أتذكر رده، وابتسامة واسعة تضيء وجهه المتعب.


- سوف أفاجأك.


يكتفى بتلك الإجابة الغامضة المقتضبة، وبالفعل فاجأنى بدلا من مفاجأة واحدة، بمفاجأتين: كتاب «سنوات الخماسين»، ثم وفاة كان وقعها عليّ أشد بأسا من «رياح خماسين» شديدة العتو!


>>>


لم أعتذر أو أهمل أى دعوة لياسر على مدى عمر أُخُوتنا، ولم أندم قدر ندمى على تأجيلى لدعوته الأخيرة، تماما كما شاء القدر ألا يتم ثلاثيته التى صدر جزؤها الأول.


وللأسف، يبدو أننى سوف أتأسف كثيرا، لم أعرف بموعد الندوة التى ناقشت كتابه إلا بعدها، لكن أكثر من صديق أحاطنى بأهم ما دار بها، ولعله وصية ياسر لجواره فى المنصة أن يكتبوا مذكراتهم، ثم وسع نطاق الوصية بدعوة الحضور لأن يكتبوا ما لديهم، فإن لم يكتبوه سيكتب الإخوان ما يزورون به التاريخ!


وكأن قلبه يستشعر دنو الأجل، فكانت إشارته إلى حرصه على إصدار الكتاب بشكل عاجل، خشية أن توافيه المنية قبل أن يكتب ما شاهده!


وهنا بيت القصيد.


ياسر ينتمى إلى جيل من الصحفيين تميزهم سمات مختلفة عن من سبقهم من أجيال الرواد الأوائل، ثم الأساتذة على مدى أكثر من جيل، قبل أن نصل إلى جيل أساتذتنا المباشرين.


جيلنا ولد من مخاض صعب، إذ ترعرع فى ظروف مركبة، ولدنا، ثم كان صبانا وشبابنا فى أتُون تجربة صهرتنا بمزيج من الرجاء واليأس، الزهو والألم!
كان الميلاد مرتبطا بتواريخ بارزة فى عمر الوطن، قبلها أو بعدها، فى العموم حول تلك التواريخ: عدوان ٥٦، نكسة ٦٧، ثم لاح الأمل بنصر ٧٣، وما أعقبه من تحولات جذرية، تجرع جيلنا آثارها!


توازى ذلك مع إنشاء كلية الإعلام، التى كانت فى البدء معهدا، تخرجت أولى دفعاته فى العام ١٩٧٥، لتقدم باكورة إنتاجها الأكاديمى الذى توالى، فكان أن شهدت الصحافة المصرية على مدى ما بين منتصف سبعينيات القرن المنصرم وحتى منتصف ثمانينياته، جيلا تميزه ملامح مختلفة، نتيجة امتزاج الظرف العام للوطن، بظرفيه النشأة والتأهيل الأكاديمى.


إجمالا، خضنا بحارا ماؤها ملح أجاج، وأمواجها كالجبال، وشواطئها بعيدة كأحلام السراب، لكنه قاوم.
>>>


وككل جيل امتهن الصحافة، كان لجيلنا نجومه وأعلامه، وكان ياسر رزق ضمن هذه الكوكبة، بل فى صفها الأول.


وإذا كان لكل جيل منذ فجر الصحافة المصرية إسهاماته التى جعلت من صحفنا شاهدة على التاريخ أحيانا، ومساهمة فى صنعه أحيانا أخرى، فإننى أتساءل:
أما آن لهذا الجيل ـ جيلنا ـ أن يحكى ويدلى بشهادته، ويقدم سهمه من المادة الخام للتاريخ؟


البوح هنا حق وواجب، ولا مجال لحديث عن حرية الصمت، فتاريخ الصحافة ـ صحفا وصحفيين ـ أحد أركان التاريخ الوطنى العام، بل وتعبير عن ضميره، وأرى أن نتخذه ـ من هذا المنظور ـ بعضا من إرث المصريين جميعا.


الصحفى يروى ويسجل، وربما شارك بالتوثيق، أو التحليل، كل بحسب إمكاناته، ودرجة قربه من الحدث، ودوائر صناعته، ومن زاوية رؤيته التى تتيح رصد جانب من جوانب الحدث، ليأتى دور المؤرخ ليمحص، و«يغربل»، ويضاهى بين الروايات، ليرجح أو يستبعد، بعد أن يبحر بين الوثائق التى تُزاح عنها رويدا رويدا أختام السرية.


>>>


بعد هذا العمر فى مهنة البحث عن الحقيقة، تيقنت أن الصحفى يتبادل الأدوار مع المؤرخ مرة، ومع السياسى أحيانا، لكن فى كل الأحوال ـ أو معظمها ـ فإنه لا يمكن التعاطى مع وقائع تاريخنا المعاصر دون متابعة، ورصد لأحوال الصحافة، باعتبارها سجلا للوطن وما يمر به من أحداث ووقائع.


كان ياسر رزق واعيا تماما لهذا الدور، ليس فقط بشكل شخصى، وإنما باعتبار المسألة واجبا يجب ألا يتأخر عن أدائه كل من امتهن الصحافة، واستطاع من موقعه أن يكون شاهدا على حدث، أو واقعة، لاسيما ما ارتبط بالتطورات والتحولات المجتمعية، والمعارك الوطنية تأثيرا وتأثرا.


من ثم أطلق دعوته، وربما صرخته الأخيرة:


أن اكتبوا شهاداتكم، لا تؤخروها، ولا تأجلوها.


فهل نثمنها «وصية واجبة» الأداء والنفاذ؟


>>>


«راحت السكرة، وجاءت الفكرة» هكذا حدثتنى نفسى.


عندما قلبت المسألة على وجوهها تكشف لى أننا يمكن أن نكون بصدد «مشروع ضخم» دون أدنى مبالغة أو تهويل للأمور!


لماذا لا تطلق الهيئة الوطنية للصحافة هذا المشروع عبر لجنة لكتابة تاريخ الصحافة المعاصرة، أحداثا، ووقائع، شخوصا ونجوما؟


لماذا لا تعنى هذه اللجنة بتسجيل شهادات جيلنا، وربما جيل سبق وآخر لاحق بحكم الالتصاق بالأحداث وصُناعها، وباعتبار مهنتنا كانت متفاعلة مع ظروف تاريخية فارقة، تتطلب دراستها فى إطار سياق تاريخى يجمع بين العمق والشمول، من ثم فإن ما لدى من أطال الله بقاءهم من جيل أساتذتنا، وجيلنا من شهادات تشتبك مع تاريخنا المعاصر لابد من الإسراع بتسجيلها وتوثيقها؟


ثم لماذا لا تلعب كلية الإعلام بجامعة القاهرة، باعتبارها الرائدة فى مجالها، وقد تجاوز عمرها النصف قرن، دور المستشار الأكاديمى لمثل هذه اللجنة؟
أدوار أخرى لنقابة الصحفيين، والمؤسسات الصحفية: قومية، وحزبية، ومستقلة لا تحتاج إلى دعوة للقيام بها.


وربما اتسعت الدائرة لتشمل المجلس الأعلى للإعلام، والهيئة العامة للاستعلامات، ومكتبة الإسكندرية فى الدعم المادى واللوچيستى لهذا المشروع.
هل تجاوز طموحى السقوف والحدود؟


لا أظن.


رحم الله ياسر رزق الذى ألهمنى الفكرة برحيله، فكان ملهما فى حياته، وبعد مماته.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة